الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ( 135 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : عنى : "وإن تلووا" أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين [ ص: 307 ] على الآخر" أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " .

ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام ، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدي من قوله : إن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل .

ذكر من قال ذلك :

10683 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر .

وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا ، أيها الشهداء ، في شهاداتكم فتحرفوها ولا تقيموها أو تعرضوا عنها فتتركوها .

ذكر من قال ذلك :

10684 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : إن تلووا بألسنتكم بالشهادة ، أو تعرضوا عنها .

10685 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : تلوي [ ص: 308 ] لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها . و"الإعراض" ، الترك .

10686 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن تلووا " ، أي تبدلوا الشهادة" أو تعرضوا " ، قال : تكتموها .

10687 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا ، قال : بتبديل الشهادة ، و"الإعراض" كتمانها .

10688 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تحرفوا أو تتركوا .

10689 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تلووا أو تعرضوا ، قال : تلجلجوا ، أو تكتموا . وهذا في الشهادة .

10690 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما "تلووا" ، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها وأما "تعرضوا" فتعرض عنها فتكتمها ، وتقول : ليس عندي شهادة!

10691 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وإن تلووا " ، فتكتموا الشهادة ، يلوي ببعض منها أو يعرض عنها فيكتمها ، فيأبى أن يشهد عليه ، يقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه! فيقول : لا أقيم الشهادة عليه . ويقول : هذا غني أبقيه وأرجو ما قبله ، فلا أشهد عليه! فذلك قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا " . [ ص: 309 ]

10692 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا ، تحرفوا" أو تعرضوا " ، تتركوا .

10693 - حدثنا محمد بن عمارة قال : حدثنا حسن بن عطية قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : " وإن تلووا " ، قال : إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها" أو تعرضوا " ، قال : تتركوها .

10694 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تلووا في الشهادة ، أن لا تقيمها على وجهها " أو تعرضوا ، قال : تكتموا الشهادة .

10695 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة : أنه كان يقول : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يعني : تلجلجوا"أو تعرضوا" ، قال : تدعها فلا تشهد .

10696 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما"تلووا" ، فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحق . يعني : في الشهادة .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوله ، أنه لي الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه ، وذلك تحريفه إياها بلسانه ، وتركه إقامتها ، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له ، وعمن شهد عليه .

[ ص: 310 ]

وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءها والقيام بها ، فلا يشهد بها .

وإنما قلنا : هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه قال : " كونوا قوامين بالقسط شهداء الله " ، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء . وأظهر معاني"الشهداء" ، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : "وإن تلووا" .

فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة : ( وإن تلووا ) بواوين ، من : "لواني الرجل حقي ، والقوم يلوونني ديني" وذلك إذا مطلوه"ليا" .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وإن تلوا ) بواو واحدة .

ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان :

أحدهما : أن يكون قارئها أراد همز "الواو" لانضمامها ، ثم أسقط الهمز ، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه ، وبقيت واو واحدة . كأنه أراد : "تلؤوا" ثم حذف الهمز . وإذا عنى هذا الوجه ، كان معناه معنى من قرأ : "وإن تلووا" ، بواوين ، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب . وذلك أن"الواو" الثانية من قوله : "تلووا" واو جمع ، وهي علم لمعنى ، فلا يصح همزها ، ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت "الواو" المحذوفة .

والوجه الآخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : أن"تلوا" من"الولاية" ، فيكون معناه : وأن تلوا أمور الناس وتتركوا . وهذا معنى إذا وجه القارئ قراءته على ما وصفنا ، إليه خارج عن معاني أهل التأويل ، وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى [ ص: 311 ] الله عليه وسلم والتابعون ، تأويل الآية .

قال أبو جعفر : فإذ كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : ( وإن تلووا أو تعرضوا ) ، بمعنى : "اللي" الذي هو مطل .

فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها ، فتغيروها وتبدلوا ، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل دين الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له ، كما قال الأعشى :


يلوينني ديني النهار ، وأقتضي ديني إذا وقذ النعاس الرقدا



وأما تأويل قوله : " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " ، فإنه أراد : " فإن الله كان بما تعملون " ، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها ، وإعراضكم عنها [ ص: 312 ] بكتمانكموها"خبيرا" ، يعني ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم ، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته . يقول : فاتقوا ربكم في ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية