الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة أربع ومائتين

فمن الحوادث فيها:

قدوم المأمون العراق وانقطاع مواد الفتن من بغداد . وكان المأمون لما توجه إلى العراق خلف غسان بن عباد ، فولى أحمد بن أسد الساماني فرغانة وأخاه نوح بن أسد سمرقند ، وأخاه يحيى بن أسد : الشاس وأشروسنة ، وأخاهم إلياس بن أسد هراة ، وهؤلاء أولاد أسد بن سامان ، وكان سامان من أصحاب أبي مسلم لما ظهر بخراسان ، ثم توفي وخلف ابنه أسدا ، ثم توفي فخلف هؤلاء وكان أحمد أحسنهم سيرة .

وكان المأمون في سفره قد أقام بجرجان شهرا ، ثم قدم الري ، فأقام أياما ، ثم جعل يسير فيقيم اليوم واليومين ، فقال له أحمد بن أبي خالد : يا أمير المؤمنين ، نقدم بغداد وليس معنا سوى خمسين ألف درهم: فكيف حالنا إن هاج أمر!؟ فقال [ ص: 127 ] المأمون : إنما نقدم على ظالم فلا يتوقع [إلا عفونا ، ومظلوم فيتوقع] إنصافنا فمن كان لا ظالما ولا مظلوما فبيته يسعه .

فلما وصل إلى النهروان وذلك يوم السبت أقام ثمانية أيام فخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس ، وكان قد كتب إلى طاهر بن الحسين أن يوافيه ، بالنهروان ، فلقيه بها ثم دخل بغداد يوم السبت لأربع عشرة [ليلة] خلت من صفر سنة أربع ومائتين بعد ارتفاع النهار ، ولباسه ولباس أصحابه قلانسهم وأعلامهم كلها الخضرة ، ولبس أهل بغداد وبنو هاشم كلهم الخضرة وكانوا يخرقون كل شيء يرونه من السواد ، فلما قدم نزل الرصافة ، وأمر طاهرا بنزول الخيزرانية مع أصحابه ، ثم تحول ونزل قصره على شاطئ دجلة ، وقيل: بل أقام بالرصافة حتى بنى منازل على شاطئ دجلة عند قصره الأول في بستان موسى ، وأمر القواد بالإقامة في العسكر فكانوا يختلفون إلى دار المأمون كل يوم .

فلما مضت ثمانية أيام تكلم بنو هاشم وولد العباس خاصة ، وقالوا: يا أمير المؤمنين ، تركت لباس أهل بيتك . وكان المأمون قد أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه ، فكان أول ما سأله أن يطرح لباس الخضرة ويرجع إلى لباس السواد وزي دولة الآباء ، فلما رأى كراهية الناس للخضرة ، دعا بسواد فلبسه ، ودعى بخلعة سواد فألبسها طاهرا ، ثم دعا قواده فألبسهم أقبية وقلانس سودا وطرح لباس الخضرة ، وذلك يوم السبت لسبع بقين من صفر ، فلم يلبس الخضرة ببغداد إلا ثمانية أيام .

وروى الصولي : أن زينب بنت سليمان بن علي كلمت المأمون في ترك لباس الخضرة ، والإضراب عما فعل من تولية أولاد علي عليه السلام فقال [لها]: إن أبا [ ص: 128 ] بكر تولى فما ولى أحدا من بني هاشم ، ثم عمر كذلك ، ثم عثمان ، فأقبل على بني عبد شمس وترك غيرهم ، ثم ولي علي بن أبي طالب ، فولى عبد الله بن العباس البصرة ، وعبيد الله اليمن ومعبدا مكة ، وقثما البحرين ما ترك منا أحدا إلا ولاه ، وكانت هذه في أعناقنا فكافئيه بما فعل قال: وقال المأمون :


ألام على شكر الوصي أبي الحسن وذلك عندي من عجائب ذا الزمن     خليفة خير الناس والأول الذي
أعان رسول الله في السر والعلن     ولولاه ما عدت لهاشم إمرة
وكانت على الأيام تعصى وتمتهن     فولى بني العباس ما اختص غيرهم
ومن منه أولى بالتكرم والمنن     فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى
وفاض عبيد الله جودا على اليمن     وقسم عمال الخلافة بينهم
فلا زلت مربوطا بذا الشكر مرتهن

أخبرنا [أبو] منصور القزاز قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال: أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال: أخبرنا المعافى بن زكريا قال: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال: أخبرنا محمد بن زكريا الغلابي قال: أخبرنا أبو سهل الرازي ، قال: لما دخل المأمون بغداد تلقاه أهلها فقال له رجل من الموالي: يا أمير المؤمنين ، بارك الله لك في مقدمك ، وزاد في نعمك وشكرك عن رعيتك فقد فقت من قبلك ، وأتعبت من بعدك ، وآيست أن يعتاض عنك ، لأنه لم يكن مثلك ، ولا علم شبهك أما فيمن مضى فلا يعرفونه ، وأما فيمن بقي فلا يرتجونه فهم بين دعاء لك ، وثناء عليك ، وتمسك بك ، أخصب لهم جنابك ، [ ص: 129 ] واحلولى لهم ثوابك ، وكرمت مقدرتك ، وحسنت أثرتك ، فجبرت الفقير وفككت الأسير ، فأنت كما قال الشاعر:


ما زلت في البذل للنوال     وإطلاق لعان بحرمه علق
حتى تمنى البرآء أنهم     عندك أمسوا في القيد والحلق

فقال [له] المأمون : مثلك يعيب من لا يصطنعه ، ويعز من يجهل قدره ، فاعذرني في سالفك ، فإنك ستجدنا في مستأنفك .

أخبرنا ابن ناصر قال: أخبرنا ثابت بن بندار قال: أخبرنا عبد الوهاب بن علي الملحمي قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكركي قال: حدثني أبو جعفر محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني حسن بن الربيع ، عن أبيه ، ربيع بن حباب مولى الرشيد قال: لما دخل المأمون بغداد دخلت عليه زبيدة أم جعفر فقالت: الحمد لله الذي لقبك بخلافة قد هنئت بها عنك قبل أن أراك ولئن كنت فقدت ابنا خليفة لقد اعتضت ابنا خليفة وما خسر من اعتاض مثلك ، وما ثكلت أم ملأت يدها منك ، وأنا أسأل الله أجرا على ما أخذ وإمتاعا بما وهب . فقال المأمون :

ما تلد النساء مثل هذه ، ماذا أبقت في هذا الكلام لبلغاء الرجال .

وروى الصولي : أنه لما قدم المأمون بغداد من خراسان كتبت إليه أم جعفر بشعر عمله بعض شعرائها وهو:


لخير إمام قام من خير عنصر     وأفضل راق كان أعواد منبر
ووارث علم الأولين وملكهم     وللملك المأمون من أم جعفر
[ ص: 130 ] كتبت وعيني تستهل دموعها     إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
أصبت بأدنى الناس منك قرابة     ومن هو لي زوج فعيل تصبري
أبي طاهر لا طهر الله طاهرا     فما طاهر في فعله بمطهر
فأبرزني مكشوفة الوجه حاسرا     وأنهب أموالي وأحرق أذري
وعز على هارون ما قد لقيته     وما مر بي من ناقص الخلق أعور
تذكر أمير المؤمنين قرابتي     فديتك من ذي قربة متذكر
فإن يك ما أسدي لأمر أمرته     صبرت لأمر من قدير مقدر
وإن تكن الأخرى فغير مدافع     إليك أمير المؤمنين فغبر

فلما قرأ الأبيات بكى وقال: أنا والله طالب بثأر أخي ، قتل الله قتلته وكتب إليها في ظهر رقعتها:


يعز علي ما لاقيت فيه     وأنت الأم خير الأمهات
ولم أرض الذي فعلوا إليه     من القتل المخالف والشتات
أمرت بأخذ هذا الأمر منه     وقبض يديه عن تلك الهنات
وإني مثله لك فاعلميه     على ما كان ما بقيت حياتي
وثأري بعد ثأر الله فيه     سيذهب بالجبابرة العتاة
بنى لك جعفر بيتا منيعا     وشيده بأعلى المكرمات
أمير المؤمنين ورثت حقا     وأنت أميرة للمؤمنات

ثم عبر إليها فعزاها ، وأكثر البكاء معها ، فقالت: يا أمير المؤمنين: إن دواء دائي وباب مسألتي في غدائك اليوم عندي ، فأقام وقعد ، فأخرجت إليه من جواري محمد من تغنيه وسألته أن يأخذ منهن من يرتضيه ، فغنت واحدة:

[ ص: 131 ]

هم قتلوه كي يكونوا مكانه     كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فوثب مغضبا ، فقالت زبيدة : يا أمير المؤمنين ، حرمني الله أجره إن كنت علمتها أو دسست إليها فصدقها وعجب من ذلك .

وفي هذه السنة: أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمس ، وكانوا يقاسمون على النصف .

وفيها: ولى المأمون أبا عيسى بن الرشيد البصرة ، وولى عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب الحرمين ، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية