الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ومنها مدة التعريف ، وقد روينا عن عمر رضي الله عنه التعريف ثلاثة أيام على باب المسجد ، ثم سنة - وبه يقول الليث بن سعد .

                                                                                                                                                                                          ويحتج لهذا القول بما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا يزيد بن محمد بن عبد الصمد نا علي بن عياش نا الليث - هو ابن سعد - حدثني من أرضى عن إسماعيل بن أمية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - وقد سئل عن الضالة - : { اعرف عفاصها ووكاءها ، ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد ، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه ، وإن لم يأت فعرفها سنة ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها } . وهذا حديث هالك ; لأن الليث لم يسم من أخذ عنه وقد يرضى الفاضل من لا [ ص: 117 ] يرضى ، هذا سفيان الثوري يقول : لم أر أصدق من جابر الجعفي - وجابر مشهور بالكذب .

                                                                                                                                                                                          ثم هو خطأ ; لأنه قال فيه : عن عبد الله بن يزيد وإنما هو عن يزيد لا عن عبد الله بن يزيد .

                                                                                                                                                                                          ووجه آخر كما روينا من طريق حماد بن سلمة نا يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن معاوية بن عبد الله بن بدر قال : وجد أبي في مبرك بعير مائة دينار فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك ؟ فقال له : عرفها عاما ، فعرفها عاما فلم يجد لها عارفا ؟ فقال له عمر : عرفها ثلاثة أعوام ، فلم يجد لها عارفا ، فقال له عمر : هي لك .

                                                                                                                                                                                          ويحتج لهذا بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن قدامة نا جرير عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال : قال لي أبي بن كعب : { التقطت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : عرفها حولا فعرفتها حولا ، فقلت : يا رسول الله قد عرفتها حولا فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم قلت : يا رسول الله عرفتها سنة فقال : عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم أخبرته عليه السلام بذلك ، فقال : انتفع بها واعرف وكاءها وخرقتها واحص عددها فإن جاء صاحبها } قال جرير : لم أحفظ ما بعد هذا .

                                                                                                                                                                                          وهكذا رويناه من طريق زيد بن أبي أنيسة ، وعبيد الله بن عمر الرقيين كلاهما عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا حديث ظاهره صحة السند ، إلا أن سلمة بن كهيل أخطأ فيه بلا شك ; لأننا رويناه من طريق حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه : فلم أجد لها عارفا عامين أو ثلاثة .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه : { عرفها [ ص: 118 ] عاما } قال : فعرفتها ، فلم تعترف ، فرجعت فقال : { عرفها عاما مرتين أو ثلاثا } فهذا شك من سلمة بن كهيل .

                                                                                                                                                                                          ثم رويناه من طريق مسلم بن الحجاج قال : حدثني أبو بكر بن نافع نا غندر نا شعبة عن سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة قال : لقيت أبي بن كعب فذكر .

                                                                                                                                                                                          الحديث وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : { عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد من يعرفها ، ثم أتيته فقال : عرفها حولا ، فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال : عرفها حولا فلم أجد من يعرفها } ، وذكر باقي الحديث : قال شعبة : فلقيته بعد ذلك بمكة فقال : لا أدري ثلاثة أحوال أو حول واحد

                                                                                                                                                                                          فهذا تصريح من سلمة بن كهيل بالشك ، والشريعة لا تؤخذ بالشك .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق مسلم حدثني عبد الرحمن بن بشر العبدي نا بهز - هو ابن أسد - نا شعبة نا سلمة بن كهيل قال : سمعت سويد بن غفلة فاقتص الحديث - قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : عرفها عاما واحدا .

                                                                                                                                                                                          فصح أن سلمة بن كهيل تثبت واستذكر ، فثبت على عام واحد ، بعد أن شك ، فصح أنه وهم ثم استذكر ، فشك ثم استذكر فتيقن ، وثبت وجوب تعريف العام وبطل تعريف ما زاد - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وههنا أثران آخران - أحدهما : رويناه من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر - هو ابن أبي ميسرة - عن شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري { أن عليا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعترفه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كله فذكر الحديث كله - وفي آخره فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام } لهذا الحديث قال أبو محمد : لا ندري من كلام من هذه الزيادة ، وهذا خبر سوء لأنه من طريق ابن أبي سبرة وهو مشهور بوضع الحديث والكذب ، عن شريك وهو مدلس يدلس المنكرات عن الضعفاء إلى الثقات . [ ص: 119 ] وروي من طريق إسرائيل عن عمر بن عبد الله بن يعلى عن جدته حكيمة عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من التقط لقطة يسيرة درهما أو حبلا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام ، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام } وهذا لا شيء : إسرائيل ضعيف ، وعمر بن عبد الله مجهول ، وحكيمة عن أبيها أنكر وأنكر ، ظلمات بعضها فوق بعض .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : روينا عن مالك ، والشافعي ، وأبي سليمان ، والأوزاعي تعريف اللقطة سنة - وهو القول الظاهر عن أبي حنيفة ، وقد روي عنه خلافه . وروي عن عمر بن الخطاب أيضا : تعريف اللقطة ثلاثة أشهر . وروي أيضا عنه من طريق شريك عن أبي يعقوب العبدي عن أبي شيخ العبدي عن زيد بن صوحان العبدي أن عمر أمر أن يعرف قلادة التقطها أربعة أشهر ، فإن جاء من يعرفها وإلا وضعها في بيت المال - فهذه عن عمر رضي الله عنه خمسة أقوال . وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري من التقط درهما فإنه يعرفه أربعة أيام وقال الحسن بن حي ، وأبو حنيفة في رواية هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن الحسن عنه : أن ما بلغ عشرة دراهم فصاعدا فإنه يعرف سنة . واختلفا فيما كان أقل فقال الحسن بن حي : يعرف ثلاثة أيام .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : يعرف على قدر ما يرى الملتقط - وهذه آراء فاسدة كما ترى ، ومنها : دفع اللقطة إلى من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء فقال مالك ، وأبو سليمان كما قلنا .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يدفعها إليه بذلك ، فإن فعل ضمنها ; لأنه قد يسمع صاحبها يصفها فيعرف صفتها فيأتي بها - . واحتجوا في ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ، ونهى عن أن يعطى أحد بدعواه . وقال عليه السلام : { شاهداك أو يمينه ليس لك غير ذلك } . [ ص: 120 ] قال أبو محمد : هذا كله حق ، والذي قاله هو الذي أمر بأن تعطى اللقطة من عرف العفاص ، والوكاء ، والعدد ، والوعاء ، وليس كلامه متعارضا ، ولا حكمه متناقضا ، ولا يحل ضرب بعضه ببعض ، ولا ترك بعضه وأخذ بعض ، فكله حق ، وكله وحي من عند الله عز وجل ، وهم مجمعون معنا على أن المدعى عليه إن أقر قضي عليه بغير بينة ، فقد جعلوا للمدعي شيئا غير الشاهدين أو يمين المدعى عليه . فإن قالوا : قد صح الحكم بالإقرار ؟ قلنا : وقد صح دفع اللقطة بأن يصف المدعي وكاءها ، وعددها ، وعفاصها ووعاءها ، ولا فرق ، وليس كل الأحكام توجد في خبر واحد ، ولا تؤخذ من خبر واحد ، ولكن تضم السنن بعضها إلى بعض ويؤخذ بها كلها ، ولو أن الحنفيين اعترضوا أنفسهم بهذه الاعتراضات في قبولهم امرأة واحدة في عيوب النساء ، والولادة ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا في حكمهم للزوجين يختلفان في متاع البيت أن ما أشبه أن يكون للرجال كان للرجل مع يمينه ، وما أشبه أن يكون للنساء كان للمرأة بيمينها بغير بينة ، ولا يحكمون بذلك في الأخت والأخ يختلفان في متاع البيت الذي هما فيه ، ولو عارضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في قولهم : إن من ادعى لقيطا هو وغيره فأتى بعلامات في جسده قضي له به ، ولا يقضون بذلك فيمن ادعى مع آخر عبدا فأتى أحدهما بعلامات في جسده ؟ وفي قولهم : لو أن مستأجر الدار تداعى مع صاحب الدار في جذوع موضوعة في الدار وأحد مصراعين في الدار : أن تلك الجذوع إن كانت تشبه الجذوع التي في البناء والمصراع القائم كان كل ذلك لصاحب الدار بلا بينة - وسائر تلك التخاليط التي لا تعقل ، ثم لا يبالون بمعارضة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بآرائهم الفاسدة .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعي فإنه قضى في القتيل يوجد في محلة أقوام أعداء له أن المدعين بقتله عليه يحلفون خمسين يمينا ثم يقضى لهم بالدية فأعطاهم بدعواهم .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : إن السنة جاءت بهذا ؟ قلنا لهم : والسنة جاءت بدفع اللقطة إلى من عرف عفاصها ، ووكاءها ، وعددها ، ووعاءها - ولا فرق . وقالوا : قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإن جاء صاحبها فأدها إليه } [ ص: 121 ] قلنا : نعم ، وصاحبها هو الذي أمر عليه السلام بدفعها إليه إذا وصف ما ذكرنا . وأما قولهم : قد يسمعها متحيل ؟ فيقال لهم : وقد تكذب الشهود ولا فرق . وقالوا : قد قال أبو داود السجستاني : هذه الزيادة - فإن عرف عفاصها ووكاءها ، وعددها ، فادفعها إليه - : غير محفوظة . قال أبو محمد : وهذا لا شيء ، ولا يجوز أن يقال فيما رواه الثقات مسندا : هذا غير محفوظ - ولا يعجز أحد عن هذه الدعوى فيما شاء من السنن الثوابت . وقد أخذ الحنفيون بزيادة جاءت في حديث حماد بن سلمة في الزكاة - وهي ساقطة غير محفوظة - ولو صح إسنادها ما قلنا فيه : غير محفوظ . وأخذوا بخبر الاستسعاء ، وقد قال من هو أجل من أبي داود : وليس الاستسعاء محفوظا وإنما هو من كلام ابن أبي عروبة . وأخذوا بالخبر { من ملك ذا رحم محرمة فهو حر } وجمهور أصحاب الحديث يقولون : إنه غير محفوظ .

                                                                                                                                                                                          وأخذ الشافعي في زكاة الفطر باللفظة التي ذكرها من لا يعتد به { ممن تعولون } وهي بلا شك ساقطة غير محفوظة - ولو صحت من طريق الإسناد ما استحللنا أن نقول فيها : غير محفوظة .

                                                                                                                                                                                          ثم نقول : أخطأ أبو داود في قوله : هي غير محفوظة - بل هي محفوظة ; لأنها لو لم يروها إلا حماد بن سلمة وحده لكفى ، لثقته وإمامته - وكيف وقد وافقه عليها سفيان الثوري عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم . وسفيان أيضا عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فبطل قول من قال : هي غير محفوظة ، بل هي مشهورة محفوظة .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية