الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (4) قوله تعالى : إذ قال : في العامل فيه أوجه ، أظهرها : أنه منصوب بـ قال يا بني ، أي : قال يعقوب : يا بني ، وقت قول يوسف له كيت وكيت ، وهذا أسهل الوجوه ، إذ فيه إبقاء " إذ " على كونه ظرفا ماضيا . وقيل : الناصب له " الغافلين " قاله مكي . وقيل : هو منصوب بـ " نقص " ، أي : نقص عليك وقت قوله كيت وكيت ، وهذا فيه إخراج " إذ " عن المضي وعن الظرفية ، وإن قدرت المفعول محذوفا ، أي : نقص عليك الحال وقت قوله ، لزم إخراجها عن المضي . وقيل : هو منصوب بمضمر ، أي : اذكر . وقيل : هو منصوب على أنه بدل من " أحسن القصص " بدل اشتمال . قال الزمخشري : " لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : يا أبت قرأ ابن عامر بفتح التاء ، والباقون بكسرها . وهذه التاء عوض من ياء المتكلم ، ولذلك لا يجوز الجمع بينهما إلا ضرورة ، وهذا يختص بلفظتين . يا أبت ، ويا أمت ولا يجوز في غيرهما من الأسماء لو قلت : " يا صاحبت " لم يجز البتة ، كما اختصت لفظة الأم والعم بحكم في نحو " يا بن أم " . ويجوز الجمع بين هذه التاء وبين كل من الياء والألف ضرورة [ ص: 432 ] كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2734 - يا أبتا علك أو عساكا ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2735 - أيا أبتا لا تزل عندنا     فإنا نخاف بأن نخترم

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2736 - أيا أبتي لا زلت فينا فإنما     لنا أمل في العيش ما دمت عائشا

                                                                                                                                                                                                                                      وكلام الزمخشري يؤذن بأن الجمع بين التاء والألف ليس ضرورة فإنه قال : " فإن قلت : فما هذه الكسرة ؟ قلت : هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك " يا أبي " فزحلقت إلى التاء لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحا . فإن قلت : فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء ، وتبقى التاء ساكنة ؟ قلت : امتنع ذلك فيها لأنها اسم ، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب ، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرك تخفيفا لأنها حرف لين ، وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير ، فلزم تحريكها . فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوض منه ؛ لأنها في حكم الياء إذا قلت : يا غلام ، فكما لا يجوز " يا أبتي " لا يجوز " يا أبت " . قلت : الياء والكسرة قبلها شيئان ، والتاء [ ص: 433 ] عوض من أحد الشيئين وهو الياء ، والكسرة غير متعرض لها ، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه ، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير . ألا ترى إلى قولهم : " يا أبتا " مع كون الألف فيه بدلا من الياء كيف جاز الجمع بينها وبين التاء ، ولم يعد ذلك جمعا بين العوض والمعوض منه ؟ فالكسرة أبعد من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : قد دلت الكسرة في " يا غلام " على الإضافة لأنها قرينة الياء ولصيقتها ، فإن دلت على مثل ذلك في " يا أبت " فالتاء المعوضة لغو ، وجودها كعدمها . قلت : بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت : يا أبي " .

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا عبارة الشيخ فإنه قال : " وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا تجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من الياء قال :


                                                                                                                                                                                                                                      2737 - يا أبتا علك أو عساكا      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه نظر من حيث إن الألف كالياء لكونها بدلا منها ، فينبغي أن لا يجمع بينهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه التاء أصلها للتأنيث قال الزمخشري : " فإن قلت : ما هذه التاء ؟ قلت : تاء تأنيث وقعت عوضا من ياء الإضافة ، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف " . قلت : وما ذكره من كونها تقلب هاء في الوقف قرأ به ابن كثير وابن عامر ، والباقون وقفوا عليها بالتاء ، كأنهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في بنت وأخت ، وممن نص على كونها للتأنيث سيبويه فإنه قال : " سألت الخليل عن التاء في " يا أبت " فقال : " هي بمنزلة التاء في تاء خالة [ ص: 434 ] وعمة " يعني أنها للتأنيث ، ويدل على كونها للتأنيث أيضا كتبهم إياها هاء ، وقياس من وقف بالتاء أن يكتبها تاء كبنت وأخت .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر ؟ قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر وشاة ذكر ورجل ربعة وغلام يفعة " . قلت : يعني أنها جيء بها لمجرد تأنيث اللفظ كما في الألفاظ المستشهد بها . ثم قال الزمخشري : " فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة ؟ قلت : لأن التأنيث والإضافة يتناسبان في أن كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره " . قلت : وهذا قياس بعيد لا يعمل به عند الحذاق ، فإنه يسمى الشبه الطردي ، يعني أنه شبه في الصورة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : " إنه قرئ " يا أبت " بالحركات الثلاث " . فأما الفتح والكسر فقد عزيتهما لقارئهما ، وأما الضم فغريب جدا ، وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلم على الضم كقراءة من قرأ وستأتي إن شاء الله قال رب احكم بضم الباء ، ويأتي توجيهها هناك ، ولم قلنا إنه مضاف للياء ولم نجعله مفردا من غير إضافة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم توجيه كسر هذه التاء بما ذكره الزمخشري من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء . وهذا أحد المذهبين ، والمذهب [ ص: 435 ] الآخر : أنها كسرة أجنبية جيء بها لتدل على الياء المعوض منها ، وليس بخلاف طائل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الفتح ففيه أربعة أوجه ، ذكر الفارسي منها وجهين ، أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف ، يعني عن الألف المنقلبة عن الياء ، كما اجتزأ عنها الآخر بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2738 - ولست براجع ما فات مني     بلهف ولا بليت ولا لوني

                                                                                                                                                                                                                                      وكما اجترئ بها عنها في يا بن أم ، ويا بن عم كما تقدم . والثاني : أنه رخم بحذف التاء ، ثم أقحمت التاء مفتوحة ، وهذا كما قال النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      2739 - كليني لهم يا أميمة ناصب     وليل أقاسيه بطيء الكواكب

                                                                                                                                                                                                                                      بفتح تاء " أميمة " على ما ذكرت لك .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : ما ذكره الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وقطرب في أحد قوليه وهو أن الألف في " يا أبتا " للندبة ، ثم حذفها مجتزئا عنها بالفتحة . وهذا قد ينفع في الجواب عن الجمع بين العوض والمعوض منه . وقد رد بعضهم هذا المذهب بأن الموضع ليس موضع ندبة .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن الأصل : يا أبة بالتنوين ، فحذف التنوين لأن النداء باب [ ص: 436 ] حذف ، وإلى هذا ذهب قطرب في القول الثاني . وقد رد هذا عليه بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو : " يا ضاربا رجلا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر " يا أبي " بالياء ، ولم يعوض منها التاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان : " أحد عشر " بسكون العين ، كأنهم قصدوا التنبيه بهذا التخفيف على أن الاسمين جعلا اسما واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : والشمس والقمر يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن تكون الواو عاطفة ، وحينئذ يحتمل أن يكون ذلك من باب ذكر الخاص بعد العام تفصيلا ؛ لأن الشمس والقمر دخلا في قوله أحد عشر كوكبا فهو كقوله : وجبريل وميكال بعد قوله : " وملائكته " ، ويحتمل أن لا يكون كذلك ، وتكون الواو لعطف المغاير ، فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على الأحد عشر بخلاف الأول ، فإنه يكون رأى الأحد عشر ، ومن جملتها الشمس والقمر ، والاحتمالان منقولان عن أهل التفسير ، وممن نقلهما الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى مع ، إلا أنه مرجوح ، لأنه متى أمكن العطف من غير ضعف ولا إخلال معنى رجح على المعية ، وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله بمعنى أنه رأى الشمس والقمر زيادة على الأحد عشر كوكبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : رأيتهم لي ساجدين يحتمل وجهين ، أحدهما : أنها جملة كررت للتوكيد لما طال الفصل بالمفاعيل كررت كما كررت " أنكم " في قوله : [ ص: 437 ] أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون كذا قاله الشيخ ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى . والثاني : أنه ليس بتأكيد ، وإليه نحا الزمخشري : فإنه قال : " فإن قلت : ما معنى تكرار " رأيتهم " ؟ قلت : ليس بتكرار ، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر كيف رأيتها ؟ سائلا عن حال رؤيتها ، فقال : رأيتهم لي ساجدين " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وهذا أظهر لأنه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد أو التأسيس فحمله على الثاني أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      و " ساجدين " صفة جمع جمع العقلاء . فقيل : لأنه لما عاملهم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم جمعهم جمعهم ، والشيء قد يعامل معاملة شيء آخر إذا شاركه في صفة ما .

                                                                                                                                                                                                                                      والرؤية هنا منامية ، وقد تقدم أنها تنصب مفعولين كالعلمية ، وعلى هذا يكون قد حذف المفعول الثاني من قوله رأيت أحد عشر كوكبا ولكن حذفه اقتصارا ممتنع ، فلم يبق إلا اختصارا ، وهو قليل أو ممتنع عند بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية