الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 320 ] القول في تأويل قوله ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ( 140 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : "بشر المنافقين" الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، " وقد نزل عليكم في الكتاب " ، يقول : أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارا وأولياء بعد ما نزل عليهم من القرآن ، " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " ، يعني : بعد ما علموا نهي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآي كتابه ويستهزئون بها" حتى يخوضوا في حديث غيره " ، يعني بقوله : "يخوضوا" ، يتحدثوا حديثا غيره"بأن لهم عذابا أليما" .

وقوله : " إنكم إذا مثلهم " ، يعني : وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون ، فأنتم مثله يعني : فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال ، مثلهم في فعلهم ، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله . فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها ، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله ، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه .

[ ص: 321 ]

وفي هذه الآية ، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع ، من المبتدعة والفسقة ، عند خوضهم في باطلهم .

وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون ، تأولا منهم هذه الآية أنه مراد بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه .

ذكر من قال ذلك :

10708 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبي وائل ، قال : إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساءه ، فيسخط الله عليهم . قال : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " ؟

10709 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن العلاء بن المنهال ، عن هشام بن عروة قال : أخذ عمر بن عبد العزيز قوما على شراب فضربهم ، وفيهم صائم ، فقالوا : إن هذا صائم! فتلا" فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " .

10710 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها " ، وقوله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، [ سورة الأنعام : 153 ] ، وقوله : ( أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ سورة الشورى : 13 ] ، ونحو هذا من القرآن . قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف [ ص: 322 ] والفرقة ، وأخبرهم : إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله .

وقوله : " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا " ، يقول : إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار ، فموفق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه ، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين ، وتوازروا على التخذيل عن دين الله وعن الذي ارتضاه وأمر به وأهله .

واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وقد نزل عليكم في الكتاب " .

فقرأ ذلك عامة القرأة بضم "النون" وتثقيل"الزاي" وتشديدها ، على وجه ما لم يسم فاعله .

وقرأ بعض الكوفيين بفتح"النون" وتشديد"الزاي" ، على معنى : وقد نزل الله عليكم .

وقرأ بعض المكيين : ( وقد نزل عليكم ) بفتح "النون" ، وتخفيف"الزاي" ، بمعنى : وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم .

قال أبو جعفر : وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام . غير أن الذي أختار القراءة به ، قراءة من قرأ : ( وقد نزل ) بضم "النون" وتشديد "الزاي" ، على وجه ما لم يسم فاعله . لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل ، على معنى : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين "" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها " إلى قوله : "حديث غيره" " أيبتغون عندهم العزة " . فقوله : " فإن العزة لله جميعا " ، يعني التأخير ، [ ص: 323 ] فلذلك كان ضم "النون" من قوله : "نزل" أصوب عندنا في هذا الموضع .

وكذلك اختلفوا في قراءة قوله " والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل " .

فقرأه بفتح ( نزل ) و ( أنزل ) أكثر القرأة ، بمعنى : والكتاب الذي نزل الله على رسوله ، والكتاب الذي أنزل من قبل .

وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما ، بمعنى ما لم يسم فاعله .

وهما متقاربتا المعنى . غير أن الفتح في ذلك أعجب إلي من الضم ، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله : " آمنوا بالله ورسوله " .

التالي السابق


الخدمات العلمية