الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              185 [ ص: 257 ] (باب إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة، يعملها تكتب بعشر أمثالها).

                                                                                                                              معنى حسن إسلامه: أنه أسلم إسلاما حقيقيا: وليس كإسلام المنافقين.

                                                                                                                              وترجمه النووي بقوله: (باب تجاوز الله عن حديث النفس، والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر. وبيان أنه سبحانه، لم يكلف إلا ما يطاق، وبيان حكم الهم بالحسنة والسيئة:

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي 148 ص ج 2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل. فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها. فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها.

                                                                                                                              وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالت الملائكة: رب! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي» [ ص: 258 ] (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله.
                                                                                                                              . وهذا الحديث متفق عليه.

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              وفي رواية عنه، عند مسلم أيضا «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هم بحسنة فلم يعملها. كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها. كتبت له عشرة، إلى سبعمائة ضعف. ومن هم بسيئة فلم يعملها. لم تكتب، وإن عملها كتبت.»

                                                                                                                              وفي الأخرى «عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عند مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما يروي عن ربه «تبارك وتعالي قال:

                                                                                                                              (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك: فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، «وإن» هم بها فعملها كتبها الله «عز وجل» عنده، عشر حسنات؛ إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.

                                                                                                                              [ ص: 259 ] وإن هم بسيئة فلم يعملها. كتبها الله عنده حسنة كاملة. «وإن» هم بها فعملها. كتبها الله سيئة واحدة.


                                                                                                                              وفي لفظ «إلى أضعاف كثيرة» تصريح بالمذهب الصحيح المختار عند أهل العلم. أن التضعيف، لا يقف على «سبعمائة ضعف» . ومن قال به فهو غلط لهذا الحديث.

                                                                                                                              قال المازري. مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب، أن من عزم على «المعصية» ، بقلبه، ووطن نفسه عليها. أثم في اعتقاده، وعزمه.

                                                                                                                              ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها، على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على «المعصية» ، وإنما مر ذلك في فكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما. ويفرق بينه وبين العزم.

                                                                                                                              وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين. وأخذوا بظاهر الحديث.

                                                                                                                              قال عياض: «عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء، والمحدثين، على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب. لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة. وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى، والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية. فإذا عملها كتبت معصية ثانية. فإن تركها خشية الله تعالى، كتبت حسنة. كما في الحديث: «إنما تركها من جرائي» ، فصار تركه لها لخوف الله تعالى، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك؛ وعصيانه هواه، حسنة.

                                                                                                                              فأما الهم الذي لا يكتب: فهي الخواطر، التي لا توطن النفس عليها، [ ص: 260 ] ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم.

                                                                                                                              وذكر بعض المتكلمين خلافا. فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى، بل لخوف الناس. هل تكتب حسنة؟ قال: لا. لأنه إنما حمله على تركها «الحياء» . وهذا ضعيف، لا وجه له.

                                                                                                                              هذا آخر كلام القاضي.

                                                                                                                              قال النووي: وهو ظاهر حسن ؛ لا مزيد عليه. وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر. ومن ذلك قوله تعالى:

                                                                                                                              إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم الآية.

                                                                                                                              وقوله تعالى:

                                                                                                                              اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم .

                                                                                                                              والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها والله أعلم.

                                                                                                                              قال الطحاوي: في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها، خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة.

                                                                                                                              وأقول: قوله (وإن هم بسيئة فلم يعملها ) ، يدل على أن كل ما هم به [ ص: 261 ] الإنسان «أي هم كان» ، سواء كان حديث نفس، أو عزما، أو إرادة؛ أو نية، لا يؤاخذ به حتى يعمله. كما يدل على ذلك إطلاق السيئة، وعدم تقييدها. وكما يفيده جعل العمل مقابلا للهم، فإنه يدل على أنه إذا لم يعمل بالسيئة، فهو من قسم الهم؛

                                                                                                                              وأيضا يدل أعظم دلالة، ذكر حرف الشرط في قوله «فإن عملها» فإن هذه الصيغة، تفيد أنه لا مؤاخذة بالسيئة، حتى يعملها. وبهذا يرد على من جعل القصد والعزم وعقد القلب أمورا زائدة على مجرد الهم.

                                                                                                                              وإذا تقرر لك هذا، علمت أن الآيات المذكورة، لا يصح الاستدلال بها على هذا المدلول، الذي لا يدل عليه مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام؛ وكيف تجعل هذه الدلالة التي هي أخفى من السهى مرجحة على دلالة الحديث، التي هي أوضح من شمس النهار؟ ! وموجبة لتأويله وقصره على بعض مدلوله؛ وإخراج بعضه، مع ما فيه من العموم الشامل المفيد، بتلك الغاية، التي هي العمل أو التكلم؟ فإن هذه الغاية بمجردها دلت على أن حديث النفس، هو شيء مغاير للقول والعمل.

                                                                                                                              فكل ما لم يخرج من الخواطر القلبية، إلى التكلم أو العمل به. فهو حديث نفس. من غير فرق بين المستقر منها، وغير المستقر. كما سيأتي بيان ذلك في الباب الآتي، بعد هذا الباب.

                                                                                                                              ولا يشكل على هذا التقرير الذي قررناه، ما تقدم من الآيات، وما ورد في مواضع مخصوصة، مما يدل على المؤاخذة بشيء من الأفعال القلبية، من دون عمل ولا تكلم. فإن ذلك يقصر على موضعه، ويخص [ ص: 262 ] بسببه، ويكون ما ورد منها مخصصا لهذه العمومات التي في الأحاديث.

                                                                                                                              وذلك كقوله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ، فإنها تدل على المؤاخذة بمجرد الإرادة في الحرم، أو في البيت الحرام بشيء من المعاصي، التي يصدق عليها أنها ظلم للنفس، أو ظلم للغير، إذ كانت تلك الإرادة متعلقة بما هو إلحاد من ذلك.

                                                                                                                              فهذه الآية، لو حملناها على ظاهرها، ولم نتأولها بوجه من وجوه التأويل، لورودها مخالفة للأدلة القطعية، الدالة على عدم المؤاخذة بما تخفيه القلوب، وتضمره السرائر، حتى تعمل أو يتكلم به. كان الواجب قصرها على المورد الذي وردت فيه، وتخصيصها بالمكان الذي خصها الدليل.




                                                                                                                              الخدمات العلمية