الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 156 ] الباب الثالث

                                                                                                                في مستند الشاهد

                                                                                                                الأصل فيه العلم اليقين لقوله تعالى ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) وقوله تعالى : ( وما شهدنا إلا بما علمنا ) قال صاحب المقدمات : كل من علم شيئا بوجه من الوجوه الموجبة للعلم شهد به ، وكذلك صحت شهادة هذه الأمة لنوح عليه السلام ولغيره على أممهم بإخبار رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، وصحت شهادة خزيمة ولم يحضر الفرس .

                                                                                                                ومدارك العلم أربعة ، من حصل له واحدة منها شهد به : العقل مع أحد الحواس الخمس ، والخبر المتواتر ، والنظر ، والاستدلال ، مثله شهادة أبي هريرة أن رجلا قاء خمرا ، فقال له عمر : تشهد ؟ لأنه قال : أشهد أنه قاءها ، فقال عمر _ رضي الله عنه _ : ما هذا التعمق ؟ ، فلا وربك ما قاءها حتى شربها ومنه شهادة الطبيب [ . . . ] بقدم العيب والشهادة بالتواتر كالنسب وولاية القاضي وعزله ، وضرر الزوجين ، وفي الجواهر : تقبل شهادة الأصم في الأفعال ، والأعمى في الأقوال .

                                                                                                                وفي الباب خمسة فروع :

                                                                                                                الفرع الأول

                                                                                                                في الجواهر : الشهادة على الخط ثلاثة أقسام : أقواها : الشهادة على خط [ ص: 157 ] نفسه ، فمن أجاز [ . . . . ] جاز الأولين ، ومن منع الأخيرين ، وفي حكاية الخلاف طريقان : الأولى على جهة الجمع ، ففي الأقسام الثلاثة أربعة أقوال : المنع مطلقا ، تجوز الشهادة على خط المقر وحده ، تمنع شهادة الشاهد على خط نفسه ويجوز غيره الجواز مطلقا ، الطريق الثانية : التفصيل ، أما الشهادة على خط المقر : فالمذهب كالشهادة على الإقرار ، فيحكم له بمجردها ، وروي : لا يحكم بها حتى يحلف معها ، لأنها لم تتناول المال بل ما يجري إليه ، ويتخرج على الروايتين : إذا شهد واحد هل يحلف معه ويستحق أم لا ، قال الشيخ أبو الوليد : المشهور جواز هذه الشهادة وعمومها ، لم يختلف فيه قول مالك ولا قول أصحابه إلا ابن عبد الحكم ، منع الشهادة على الخط ، ولم يخصص ولم يبين موضعها ، وأما على خط الشاهد الميت أو الغائب : فقال الشيخ أبو الوليد : لم يختلف في الأمهات المشهورة قول مالك في إجازتها وإعمالها ، وروي عدم الجواز ، وجعل الشهادة على الخط كالشهادة على شهادته إذا سمعها منه ولم يشهد ، وقد يكتب خطه بما يستريب فيه عند الأداء ، وقد يكتب على من لا يعرفه إلا بعينه ، وقد لا يعرفه بعينه ولا باسمه ، والفرق على المشهور : أن الرجل قد يخبر بما لا يحققه ، ولا ينبغي للرجل أن يكتب خطه ، حتى يتحقق ما شهد عليه ، ويعرف من أشهده بالعين والاسم مخافة أن يغيب أو يموت فيشهد على خطه ، فأشبه ذلك من يسمع الشاهد يؤدي عند الحاكم أو يشهد عليها غيره أنه يشهد على شهادته وإن لم يشهده ، قال الشيخ أبو الوليد : والقول الأول أظهر ، لأنه قد قيل : لا يشهد على شهادته حتى يشهده عليها أو سمعه يؤديها عند الحاكم ، أو يشهد عليها غيره ، مع أن وضع الشاهد شهادته في الكتاب ، لا يقوى قوة ذلك ، قال : وقد قال ابن زرب : لا تجوز الشهادة على خط الشاهد حتى يعرف أنه كان يعرف من [ ص: 158 ] أشهده معرفة العين ، قال الشيخ أبو الوليد : وذلك صحيح لا ينبغي أن يختلف فيه ; لما قد تساهل الناس فيه من وضع شهادتهم على من لا يعرفون ، قالها أحمد بن حارث في وثائق ابن مغيث .

                                                                                                                فرعان مرتبان : الأول ، اختلفوا في حد الغيبة التي تجوز فيها الشهادة على خط الشاهد ، قال عبد الملك : مسافة القصر ، وقال أصبغ ، نحو إفريقية من مصر ، أو مكة من العراق ؛ لأن مسافة القصر يمكن حضوره منها ، وقال سحنون : الغيبة البعيدة ولم يحددها .

                                                                                                                الثاني ، فإذا جازت : قال مطرف وعبد الملك : إنما تجوز في الأموال حيث تجوز للشاهد واليمين ، وعن مالك : إذا كتب لها زوجها بالطلاق فشهدا على خطها ، قال : نفعها ذلك واختلف في قوله : نفعها ما يريد به ليستحلف أو يطلق عليه ، قال صاحب البيان : الصواب الطلاق إذا كان الخط بإقراره أنه طلقها ; قال : أن يكتب لرجل يعلمها أنه طلقها وأما إن بطلاقه إياها ابتداء فلا يحكم به ، إلا أن يقر أنه كتبه مجمعا على الطلاق ، وفي قبول قوله : إنه كتب غير مجمع بعد أن أنكر كتبه خلاف ، وفي الجواهر : وأما شهادة على خطه إذا لم ينكر الشهادة ، وفي الواضحة : إذا عرف خطه ولم يذكر الشهادة ولا شيئا منها ، وليس في الكتب محو ولا ريبة فليشهد ، وإن كان فيه ريبة فلا ، قال : ثم رجع ، فقال : لا يشهد حتى يذكر بعض الشهادة أو ما يدل منها على أكثرها ، قال مطرف وبالأول أقول ، ولا بد للناس من ذلك ، وقاله عبد الملك والمغيرة ، وابن أبي حاتم وابن دينار ، وإن لم يحط بما في الكتاب عددا فليشهد ، وقاله أيضا ابن [ ص: 159 ] وهب ، وابن عبد الحكم ، واختاره أيضا سحنون في نوازله ، وقال ابن القاسم ، وأصبغ بالقول الثاني أنه يشهد ، قال ابن حبيب : وهو أحوط ، والأول جائز .

                                                                                                                تفريع : أما على القول فيشهد ولا يقول : لا أعرف إلا الخط ، ويشهد أن ما فيه حق ، وذلك لازم له أن يفعله ، وإن ذكر للحاكم أنه لا يعرف إلا الخط لا يقبلها الحاكم ، وعلى الثاني الذي رجع إليه مالك : فروى عنه أشهب : يرفعها للسلطان على وجهها أو يقول : إن كتابا يشبه كتابي وأظنها إياه ولست أذكر شهادتي ولا أني كتبتها ، يحكي ذلك على وجه ، ولا يقضى بها قبل ، وإن لم يكن في الكتاب محو وعرف ، قال : قد يضرب على خطه وإن لم يذكر الشهادة فلا يشهد ، قال الإمام أبو محمد : كان القاسم بن محمد إذا شهد شهادة كتبها ، وكان مالك يفعله ومن لا يعرف نسبه فلا بد من الشهادة على عينه ، ولا يجوز تحمل الشهادة عن المرأة المتنقبة ، بل لا بد من الكشف عن وجهها يميزها عند الأداء بالمعرفة المحققة ، ولو عرفها رجلان لا يشهد عليها بل على شهادتها أن فلانة أقرت ، وذلك عند تقرر الأداء منهما ؛ لأنه فرعهما ، وعن مالك : يشهد ، قال الشيخ أبو الوليد : والذي أقول به : إن كان المشهود له أتاه بالشاهدين ليشهدا له عليها ، ولا يشهد إلا على شهادتهما ، وإن سأل هو الشاهدين فأخبراه أنها فلانة ، شهد عليها ، قال : وكذلك لو سأل عن ذلك رجلا واحدا يثق به أو امرأة ؛ لأنه من باب الخبر ، ولو أتاه المشهود له بجماعة من لفيف النساء فيشهدون عنده أنها فلانة ، لجاز أن يشهد إذا وقع له العلم بشهادتهن ، وإذا شهدت بينة على عين امرأة بدين فزعمت أنها بنت زيد فليس للقاضي أن يسجل على أنها بنت زيد حتى يثبت ذلك بالبينة ، وقال ابن مغيث : لأصحاب مالك فمن عرف خطه ولا ينكر الشهادة خمسة أقوال : يشهد إذا لم يسترب ، لا يشهد ، يخبر بذلك الإمام فيفعل ما يراه ، إن كتب الوثيقة كلها يشهد وإلا فلا ، إن كانت الوثيقة كاغدا لم يشهد [ ص: 160 ] تمهيد : خالفنا الأئمة في قبول الشهادة على الخط وأن لا يعهد على الخط البينة ؛ محتجين بقوله تعالى : ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) و ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) فدل على وجوب الذكر ، وحصول العلم ، وقال _ صلى الله عليه وسلم _ ( على مثل هذا فاشهد - يشير إلى الشمس - وإلا فدع ) والخط محتمل للتزوير والتغير بلا علم فلا تجوز الشهادة ، وجوابهم : أن الكلام حيث علم أنه خطه وأنه لا يكتب بما يعلم ، فيحصل من هاتين المقدمتين العلم بمضمون الخط ، ويدل على ذلك قبول الصحابة وعمالهم لكتب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وكتب الخلفاء من غير نكير ، فكان ذلك إجماعا ؛ ولأنهم قالوا بالاعتماد على الخطوط في الرواية في الحديث ، وهي تبنى عليها أحكام [ . . . ] إلى قيام الساعة ، وأما الشهادة فمتعلقة بأمر طري لا عموم فيه ، فقبوله أولى [ . . . ] بالخط ففي الاحتمال البعيد ، كالاحتمال في تشابه الأشخاص والخلاف [ . . . ] عليهم لا يضر ذلك اتفاقا ، فكذلك هاهنا ؛ ولأن الضرورة داعية إليه بموت الشهود [ . . . ] قول الشاهد عن الواقعة بكثرة الشهادات ، فوجب الجواز دفعا للضرورة .

                                                                                                                تفريع : قال صاحب البيان : إذا كتب خطه في ذكر حق على أبيه ، فمات أبوه ، وهو وارث ، فقال : كتبته على غير حق ، وأنكره فشهد على خطه ، قال أصبغ بهذا الحق ؛ لأن المال انتقل إليه صارت الشهادة التي كتبها على نفسه ، وقال عبد الملك : لا يؤخذ الحق إلا بإقرار غير الخط ، ومحمله محمل الشهادة لا تحمل الإقرار .

                                                                                                                [ ص: 161 ] فرع : قال : ولا تجوز الشهادة على الخط في كتاب القاضي ؛ لأنه من الأحكام والأبدان .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا عرف خطه لا يؤدي حتى يذكر الشهادة ولو قربها ، وإلا أدى ذلك كما علم ، ولا ينفع الطالب . وفي التنبيهات : إنما يؤدي كما علم ، إذا كان على بصيرة أنه لم يكتب مسامحة ، بل على صحة ، فإن علم أنه كان في بعض الأزمنة ، يسامح في الكتابة من غير صحة ، فلا يؤدي شيئا وجده بخطه لا يعلمه ، ولا يؤدي أحد على خط غيره إلا إذا ثبت أنه عدل عند كتابة ذلك الخط ، كالشهادة على الشهادة ، لا بد أن يكون الأصل عدلا حين الشهادة عليه ، وفي النكت : إنما أمره بالدفع لأن الحاكم قد يرى إجازة ذلك ، قال التونسي : وفي كتاب محمد : لا يرفعها ، وقال سحنون : إن لم يسترب في الكتاب رفعها وحكم بها .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية