الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون

الضمير في: "جعلوا" لكفار قريش والعرب، والضمير في: "له": لله تعالى. و"الجزء": القطع من الشيء، وهو بعض الكل، فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا، وذلك في قول مجاهد ، وكثير من المتأولين قول العرب: الملائكة بنات الله، وقال بعض أهل اللغة: الجزء: الإناث، يقال: أجزأت المرأة إذا ولدت أنثى، ومنه قول الشاعر:


إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا



[ ص: 538 ] وقد قيل: إن هذا البيت موضوع. وقال قتادة : المراد بالجزء: الأصنام وفرعون وغيره ممن عبد من دون الله، أي: جزءا ندا، فعلى هذا فتعنيف الكفرة في فصلين: في أمر الأصنام، وفي أمر الملائكة، وقوله تعالى: إن الإنسان لكفور : أتى بلفظ الجنس العام، والمراد: بعض الإنسان، وهو هؤلاء الجاعلون ومن أشبههم. و "مبين" في هذه الآية غير متعد.

وقوله تعالى: أم اتخذ إضراب وتقرير، وهذه حجة بالغة عليهم; إذ المحمود من الأولاد والمحبوب قد خوله الله تعالى بني آدم، فكيف يتخذ هو لنفسه النصيب الأدنى؟ و"أصفاكم" معناه: خصكم وجعل ذلك صفوة لكم.

ثم قامت الحجة عليهم في هذا المعنى وكانت بقوله تعالى: وإذا بشر الآية، و"مسود": خبر "ظل"، و"الكظيم": الممتلئ غيظا الذي قد رد غيظه إلى جوفه، فهو يتجرعه ويروم رده، وهذا محسوس عند الغيظ، ثم زاد توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله تعالى: أومن ينشأ ، و "من" في موضع نصب بفعل يدل عليه "جعلوا"، كأنه قال: أو من ينشأ في الحيلة وهو الذي خصصتم به الله تعالى؟ ونحو هذا، والمراد بـ"من": النساء، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ، و "ينشأ": معناه: ينبت ويكبر، وقرأ جمهور القراء: "ينشأ" بفتح الياء وسكون النون. وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: "ينشأ" بضم الياء وسكون النون على تعدية الفعل بالهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم -في رواية حفص -: "ينشأ" بضم الياء وفتح النون وشد الشين على التعدية بالتضعيف، وهي قراءة ابن عباس أيضا، والحسن ، ومجاهد ، وفي مصحف ابن [ ص: 539 ] مسعود: "أو من لا ينشأ إلا في الحلية" ، و "الحلية": الحلي من الذهب والفضة والأحجار، و "الخصام": المحاجة ومجاذبة المحاورة، وقلما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني، وفي مصحف ابن مسعود : "وهو في الكلام غير مبين" ، و "مبين" في هذه الآية متعد، والتقدير: غير مبين غرضا أو منزعا ونحو هذا، وقال ابن زيد : المراد بـ " من ينشأ في الحلية " الآية: الأصنام والأوثان، لأنهم كانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة، وكانوا يجعلون الحلي على كثير منها.

ولما فرغ تعنيفهم على ما أتوه في جهة الله تعالى بقولهم: "الملائكة بنات الله سبحانه"، بين الله تعالى فساد مقالتهم، فعينها بجهة أخرى من الفساد، وذلك شنيع قولهم في عباد الله تعالى مختصين مقربين: "أنهم إناث"، وقرأ أكثر السبعة، وابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جبير ، وعلقمة : "عباد الرحمن إناثا"، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وشيبة ، وقتادة ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عند الرحمن إناثا"، وهذه القراءة أدل على رفع المنزلة وقربها في التكرمة، كما قيل: ملك مقرب، وقد تصرف المعنيان في كتاب الله تعالى في وصف الملائكة في غير هذه الآية، فقال تعالى: بل عباد مكرمون ، وقال سبحانه في أخرى: إن الذين عند ربك ، وفي مصحف ابن مسعود : "وجعلوا الملائكة عباد الرحمن إناثا".

وقرأ نافع وحده: "أأشهدوا" بهمزتين وبلا مد بينهما، وبفتح الأولى وضم الثانية وتسهيلها بين الهمزة والواو، ورواها المفضل عن عاصم بتحقيق الهمزتين، وقرأ المسيبي عن نافع بمد بين الهمزتين،. وقرأ أبو عمرو ، ونافع أيضا، وعلي بن أبي طالب رضى الله عنه، وابن عباس رضى الله عنهما، ومجاهد : "أوشهدوا" بتسهيل الثانية بلا مد، وقرأ جماعة من القراء بالتسهيل في الثانية ومدة بينهما، وقرأ آخرون: "أشهدوا" بهمزة واحدة بغير استفهام، وهي قراءة الزهري ، وهي صفة الإناث، أي: أشهدوا خلقهم؟، ومعنى الآية: التوبيخ وإظهار فساد عقولهم، وادعائهم وأنها مجردة من الحجة، وهذا نظير الآية [ ص: 540 ] الرادة على المنجمين وأهل الطبائع، في قوله تعالى: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض .

وقرأ جمهور الناس: "ستكتب شهادتهم" برفع "شهادة" وبناء الفعل للمفعول، وقرأ الأعرج ، وابن عباس ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة: "سنكتب شهادتهم" بنون الجمع، و"شهادتهم" بالنصب، وقرأت فرقة: "سيكتب" بالياء على معنى: سيكتب الله شهادتهم بالنصب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "ستكتب شهاداتهم" على بناء الفعل للمفعول وجمع الشهادات، وفي قوله تعالى: "ويسألون": وعيد مفصح، و "أشهدوا" في هذه الآية معناه: أحضروا؟ وليس ذلك من شهادة تحمل المعاني التي تطلب أن تؤدى.

التالي السابق


الخدمات العلمية