الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقول الشيخ رحمه الله : ( ( لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ) ) هو حق ، باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، بل هو محيط بكل شيء وفوقه . وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله ، لما يأتي في كلامه : أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه . فإذا جمع بين كلاميه ، وهو قوله : ( ( لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ) ) وقوله : ( ( محيط بكل شيء وفوقه ) ) علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ، ولا يحيط به شيء ، كما يكون لغيره من المخلوقات ، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء ، العالي عن كل شيء .

لكن بقي في كلامه شيئان :

أحدهما أن إطلاق مثل هذا اللفظ - مع ما فيه من الإجمال والاحتمال - كان تركه أولى ، وإلا تسلط عليه ، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو ، وإن أجيب عنه بما تقدم ، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته ، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى .

الثاني : أن قوله : ( ( كسائر المبتدعات ) ) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي وفي هذا نظر . فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي ، [ ص: 268 ] فممنوع ، فإن العالم ليس في عالم آخر ، وإلا لزم التسلسل ، وإن أراد أمرا عدميا ، فليس كل مبتدع في العدم ، بل منها ما هو داخل في غيره ، كالسماوات والأرض في الكرسي ، ونحو ذلك ، ومنها ما هو منتهى المخلوقات ، كالعرش . فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات ، قطعا للتسلسل ، كما تقدم . ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال : بأن ( ( سائر ) ) بمعنى البقية ، لا بمعنى الجميع ، وهذا أصل معناها ، ومنه ( ( السؤر ) ) ، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء . فيكون مراده غالب المخلوقات ، لا جميعها ، إذ السائر على الغالب أدل منه على الجميع ، فيكون المعنى : أن الله تعالى غير محوي - كما يكون أكثر المخلوقات محويا ، بل هو غير محوي - بشيء ، تعالى الله عن ذلك . ولا نظن بالشيخ رحمه الله أنه ممن يقول أن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين ، كما ظنه بعض الشارحين ، بل مراده : أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته ، وأن يكون مفتقرا إلى شيء منها ، العرش أو غيره .

وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر ، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه ، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به ، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى . وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه ، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة ، فلذلك قلت : إن في ثبوته [ ص: 269 ] عن الإمام نظرا ، وإن الأولى التوقف في إطلاقه ، فإن الكلام بمثله خطر ، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع ، كالاستواء والنزول ونحو ذلك . ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم - يكون العرش فوقه ، ويكون محصورا بين طبقتين من العالم . فقوله مخالف لإجماع السلف ، مخالف للكتاب والسنة . وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني : سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ - بعد روايته حديث النزول - يقول : سئل أبو حنيفة رضي الله عنه ؟ فقال : ينزل بلا كيف . انتهى .

وإنما توقف من توقف في نفي ذلك ، لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف ، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق [ ص: 270 ] العرش ، بل يقول : لا مباين ، ولا محايث ، لا داخل العالم ولا خارجه ، فيصفونه بصفة العدم والممتنع ، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش ، ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود ، أو يقول : هو وجود كل موجود ونحو ذلك ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .

وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان ، عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله : ( ( محيط بكل شيء وفوقه ) ) إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية