الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
المثال العاشر : مما يظن أنه مجاز وليس بمجاز لفظ ( النداء الإلهي ) وقد تكرر في الكتاب والسنة تكرارا مطردا في محاله متنوعا يمنع حمله على المجاز ، فأخبر تعالى أنه نادى الأبوين في الجنة ونادى كليمه ، وأنه ينادي عباده يوم القيامة ، وقد ذكر سبحانه النداء في تسعة مواضع في القرآن أخبر فيها عن ندائه بنفسه ، ولا حاجة إلى أن يقيد النداء بالصوت ، فإنه بمعناه وحقيقته باتفاق أهل اللغة ، فإذا انتفى الصوت انتفى النداء قطعا ، ولهذا جاء إيضاحه في الحديث الصحيح الذي بلغناه الصحابة والتابعون وتابعوهم وسائر الأمة تلقته بالقبول وتقييده بالصوت إيضاحا وتأكيدا كما قيد التكليم بالمصدر في قوله تعالى : ( وكلم الله موسى تكليما ) .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " يا آدم ، فيقول لبيك وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار " [ ص: 488 ] وقال البخاري : حدثنا الحميدي وعلي بن المديني قالا : حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول سمعت أبا هريرة يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير " الحديث رواه النسائي في التفسير وابن ماجه وأبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .

وروى أبو داود من حديث علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبيد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيضعون ، ولا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل ، فإذا جاءهم جبرائيل فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل : ماذا قال ربكم ؟ قال الحق ، فينادون الحق الحق " وهذا الإسناد كلهم أئمة ثقات .

وقد فسر الصحابة هذه الآية بما يوافق هذا الحديث الصحيح ، فقال أبو بكر بن مردويه في تفسيره : حدثنا أحمد بن كامل بن خلف حدثنا محمد بن كامل بن خلف حدثنا محمد بن سعد حدثنا أبي حدثنا عمي حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) قال لما أوحى الجبار جل جلاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي ، فلما كشف عن قلوبهم فسألوه عما قال الله تعالى قالوا : الحق ، علموا أن الله تعالى لا يقول إلا حقا ، وأنه منجز ما وعد ، قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم قالوا ماذا قال ربكم ، قالوا الحق هو العلي الكبير .

[ ص: 489 ] وهذا إسناد معروف يروي به ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهم التفسير وغيره عن ابن عباس ، وهو إسناد متداول بين أهل العلم وهم ثقات .

وقال عبد الله بن المبارك ، حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما نزل جبرائيل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع أهل السماوات لانحطاطه ، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا فكلما مروا بأهل سماء فزع عن قلوبهم ، فيقولون يا جبرائيل بم أمرت ؟ فيقول كلام الله بلسان عربي .

وقد روينا في مسند أبي يعلى الموصلي ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا همام حدثنا القاسم بن عبد الواحد ، قال حدثني عبد الله بن عقيل بن أبي طالب أن جابر بن عبـد الله حدثه ، قال بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه " قال فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي فسرت إليه شهرا حتى أتيت الشام ، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري ، فأرسلت إليه أن جابرا على الباب ، قال فرجع إلى الرسول ، فقال : جابر بن عبد الله ؟ فقلت : نعم ، قال فرجع الرسول فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديثا بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لم أسمعه ، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الله العباد أو قال يحشر الله الناس قال وأومأ بيده إلى الشام عراة غرلا بهما ، قلت ما بهما ؟ قال ليس معهم شيء ، قال : فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، قال : قلنا كيف هذا وإنما نأتي الله غرلا بهما ؟ قال بالحسنات والسيئات " هذا حديث حسن جليل ، وعبد الله بن محمد بن عقيل صدوق حسن الحديث ، وقد احتج به غير واحد من الأئمة ، وتكلم فيه من قبل حفظه ، وهذا الضرب ينتفي من [ ص: 490 ] حديثهم ما خالفوا فيه الثقات ، ورووا ما يخالف روايات الحفاظ وشذوا عنهم ، وأما إذا روى أحدهم ما شواهده أكثر من أن تحصر مثل هذا الحديث ، فلا ريب في قبول حديثه ، أما القاسم بن عبد الواحد بن أيمن المكي فحسن الحديث أيضا ، وقد احتج به النسائي مع تشدده في الرجال وأن له فيهم شرطا أشد من شرط مسلم ، وحسن الترمذي حديثه وذكره ابن حبان في كتاب الثقات .

وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن همام بن يحيى بإسناده بطوله محتجا به على من رده ، وروى البخاري أوله في الصحيح مستشهدا به تعليقا ، ورواه في كتاب الأدب بطوله من حديث همام بن يحيى وقال في حديث واحد ، ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه في الأحاديث المختارة ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هي أصح من صحيح الحاكم ، وقال الصريفيني : شرطه فيها خير من شرط الحاكم ورواه عبد الله بن أحمد في السنة والطبراني في المعجم والسنة وأبو بكر بن أبي عاصم في السنة محتجين به ، فمن الناس سوى هؤلاء الأعلام سادات الإسلام ولا التفات إلى ما أعله به بعض الجهمية ظلما منه وهضما للحق ، حيث ذكر كلام المضعفين لعبد الله بن عقيل والقاسم بن محمد دون من وثقهما وأثنى عليهما ، فيوهم الغر أنهما مجمع على ضعفهما لا يحتج بحديثهما ، ثم أعله بأن البخاري لم يجزم به ، وإنما علقه تعليقا فقال : ويذكر عن جابر بن عبد الله ، وليس هذا تعليلا من البخاري له فقد جزم به في أول الكتاب حيث قال : ورحل جابر بن عبد الله في طلب حديث واحد شهرا ، ورواه كما ذكرنا في الأدب بإسناده وأعله بأن البخاري ومسلما يحتجا بابن عقيل ، وهذه علة باردة باطلة ، كل أهل الحديث على بطلانها ، وأعله باضطراب ألفاظه ، ففي بعضها يقول : " فقدمت الشام " ، وفي بعضها " فينادي " بكسر الدال ، وفي بعضها " فينادى " بفتحها ، وفي بعضها " حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه " ، وفي بعضها " فما أحد يحفظه غيرك ، فأحببت أن تذاكرنيه " ، قال : وهذا يشعر أنه سمعه أيضا وأحب مذاكرة عبد الله بن أنيس له به ، قال : وفي بعضها رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها يسميه بعبد الله بن أنيس .

ومن تأمل هذه العلل الباردة علم أنها من باب التعنت ، فهب أن هذا الحديث معلول أفيلزم من ذلك بطلان سائر الآثار الموقوفة والأحاديث المرفوعة ، ونصوص القرآن وكلام أئمة الإسلام كما ستراه إن شاء الله تعالى ، وقد رواه الحافظ أبو عبد الله [ ص: 492 ] محمد بن عبد الواحد المقدسي من حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال : بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من القصاص فذكر القصة إلى أن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " فإن الله يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلا بهما ، ثم ينادى بصوت رفيع غير فظيع يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، فيقول : أنا الديان لا تظالم اليوم ، أما وعزتي لا يجاورني اليوم ظلم ظالم ، ولو لطمة كف بكف أو يد على يد ، ألا وإن أشد ما أتخوف على أمتي من بعدي عمل قوم لوط ، فلترتقب أمتي العذاب إذا تكافأ النساء بالنساء والرجال بالرجال " ورواه تمام في فوائده .

ويكفي رواية البخاري في صحيحه مستشهدا به ، واحتج به في خلق أفعال العباد ، ورواه أئمة الإسلام في كتب السنة وما زال السلف يروونه ، ولم يسمع عن أحد من أئمة السنة أنه أنكره حتى جاءت الجهمية فأنكروه ، ومضى على آثارهم من اتبعهم في ذلك .

وقال قال عبد الله بن أحمد في كتاب السنة : قلت لأبي يا أبت إنهم يقولون إن الله لم يتكلم بصوت ، فقال بلى تكلم بصوت .

وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد : ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيا من الصوت ، ويكره أن يكون رفيع الصوت أو " أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " ، وليس هذا لغير الله عز وجل ، قال : وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ; لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، ثم ساق حديث جابر أنه سمع عبد الله بن أنيس يقوله : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان . . . " الحديث .

ثم احتج بحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله يوم القيامة : يا آدم ، فيقول لبيك ربنا وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . . . " الحديث .

[ ص: 492 ] ثم احتج بحديث عبد الله بن مسعود " إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان " .

فهذان إماما أهل السنة على الإطلاق : أحمد بن حنبل والبخاري ، وكل أهل السنة والحديث على قولهما ، وقد صرح بذلك وحكاه إجماعا حرب بن إسماعيل صاحب أحمد وإسحاق ، وصرح به خشيش بن أصرم النسائي ، ومحمد بن حاتم المصيصي ، وعبد الله بن الإمام أحمد وأبو داود السجستاني وابنه أبو بكر .

وقد احتج الإمام أحمد بحديث ابن مسعود وغيره ، وأخبر أن المنكرين لذلك هم الجهمية ، فقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يقولون : " لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت " ، فقال أبي : تكلم الله بصوت ، وروى إمام الأمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من حديث الشعبي قال : أرواه عن جابر حديثا طويلا وفيه " فبينا هم على ذلك إذ أتاهم نداء من قبل الرحمن عز وجل : عبادي ما كنتم تعبدون في الدنيا ؟ فيقول : أنت أعلم إياك نعبد ، فيأتيهم صوت لم يسمع الخلائق بمثله : عبادي صدقتم فقد رضيت عنكم ، فتقول الملائكة عند ذلك بالشفاعة ، فيقول المشركون : ما لنا من شافعين " . وروى ابن خزيمة من حديث محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقبض الله تعالى الأرض يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ثم يهتف بصوته : من كان لي شريكا فليأت ، لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد ، فيقول : لله الواحد القهار ، ثم يزجر الخلائق زجرة أخرى فإذا هم بالساهرة . . . " الحديث ، وقطعة من حديث الصور الطويل ، ولم يزل الأئمة يروونه ويحتجون به حتى حدثت الجهمية .

وروى ابن خزيمة من حديث نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر ، عن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر فتكلم بالوحي . . . " الحديث ، قال ابن خزيمة : ابن أبي زكريا هو عبد الله .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال : إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم ، قال سكن عن قلوبهم ، نادى أهل السماء أهل [ ص: 493 ] السماء : ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق ، قال كذا وكذا ، رواه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عن أبيه وفي تفسير شيبان عن قتادة في تفسير قوله : ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ) قال صوت رب العالمين ، وذكره ابن خزيمة ، وروى عبد الله بن أحمد عن نوف قال : نودي موسى من شاطئ الوادي ، قال : من أنت الذي تناديني ؟ قال : أنا ربك الأعلى ، وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه حدثنا عبد الصمد قال : سمعت وهب بن منبه قال : لما رأى موسى النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فذكر الحديث إلى أن قال : فنودي من الشجرة ، فقيل له يا موسى فأجاب سريعا ولا يدري من دعاه ، وما كان سرعة جوابه إلا استئناسا بالإنس ، فقال لبيك مرارا ، إني أسمع صوتك وأحس وجسك ، ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع موسى هذا علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تبارك وتعالى فأيقن به ، فقال كذلك أنت إلهي أسمع أم بكلام رسولك ؟ فقال : بل أنا الذي أكلمك فادن مني ، الحديث قد رواه عبد الرحمن بن حميد في تفسيره ويعقوب بن سفيان الفسوي .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أحب الله عبدا نادى جبرائيل إن الله قد أحب فلانا فأحبه . . . " الحديث ، والذي تعقله الأمم من النداء إنما هو الصوت المسموع كما قال الله تعالى : ( واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب ) وقال : ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ) وهذا النداء هو رفع أصواتهم الذي نهى الله عنه المؤمنين وأثنى عليهم بغضها بقوله : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) الآية .

وكل ما في القرآن العظيم من ذكر كلامه وتكليمه وأمره ونهيه دال على أنه تكلم [ ص: 494 ] حقيقة لا مجازا ، وكذلك نصوص الوحي الخاص كقوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) .

قال الجارودي : سمعت الشافعي يقول : أنا مخالف ابن علية في كل شيء حتى في قوله لا إله إلا الله ، أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب ، وهو يقول : لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى .

وقد نوع الله تعالى هذه الصفة في إطلاقها عليه تنويعا يستحيل معه نفي حقائقها ، بل ليس في الصفات الإلهية أظهر من صفة الكلام والعلو والفعل والقدرة ، بل حقيقة الإرسال تبليغ كلام الرب تبارك وتعالى ، وإذا انتفت عنه حقيقة الكلام انتفت حقيقة الرسالة والنبوة ، والرب تبارك وتعالى يخلق بقوله وكلامه كما قال تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فإذا انتفت حقيقة الكلام عنه انتفى الخلق ، وقد عاب الله آلهة المشركين بأنها لا تكلم ولا تكلم عابديها ولا ترجع إليهم قولا ،والجهمية وصفوا الرب تبارك وتعالى بصفة هذه الآلهة ، وقد ضرب الله تعالى لكلامه واستمراره ودوامه المثل بالبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار الأرض كلها أقلام ، فيفنى المداد والأقلام ولا تنفد كلماته ، أفهذا صفة من لا يتكلم ولا يقوم به كلام ؟ فإذا كان كلامه وتكليمه ، وخطابه ونداؤه ، وقوله وأمره ، ونهيه ووصيته ، وعهده وإذنه ، وحكمه وأنباؤه ، وأخباره وشهادته كل ذلك مجاز لا حقيقة له بطلت الحقائق كلها ، فإن الحقائق إنما حقت بكلمات تكوينه ( ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ) فما حقت الحقائق إلا بقوله وفعله .

التالي السابق


الخدمات العلمية