الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2137 باب في حجة النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                              ومثله في النووي.

                                                                                                                              وفي هذا الباب: حديث جابر رضي الله عنه. وهو حديث عظيم ، مشتمل على جمل من الفوائد ، ونفائس من مهمات القواعد.

                                                                                                                              وهو من إفراد (مسلم) . لم يروه (البخاري) في صحيحه. ورواه أبو داود، كرواية مسلم.

                                                                                                                              قال عياض: وقد تكلم الناس ، على ما فيه من الفقه ، وأكثروا.

                                                                                                                              وصنف فيه (أبو بكر بن المنذر) : جزءا كبيرا. وخرج فيه من الفقه: [ ص: 421 ] مائة ونيفا وخمسين نوعا. ولو تقصى ، لزيد على هذا القدر: قريب منه.

                                                                                                                              قال النووي: وقد سبق الاحتجاج ، بنكت منه ، في أثناء شرح الأحاديث السابقة. وسنذكر ما يحتاج إلى التنبيه عليه ، على ترتيبه. (إن شاء الله تعالى) . انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولم يورده شيخ الإسلام: (جد) ابن تيمية ، في كتابه: (المنتقى) . وأورده (الحافظ) ابن حجر ، رحمه الله تعالى ، في كتابه: (بلوغ المرام) مختصرا. وشرحته هناك ، في شرحي: (مسك الختام) . ولا شك ، أن هذا الحديث ، من أجمع أحاديث الباب. كأنه: مسجد المناسك ، خطيب في المحراب.

                                                                                                                              فينبغي لكل من له إلمام بعلم الحديث ، ومعرفة بدقائق هذا الفن الشريف ، ومسكة في الفقه ، وهمة في استخراج المعاني: أن يعتني به كل الاعتناء. ويعرف قدره في المسائل والأحكام، وما له عليه الابتناء. وبالله التوفيق.

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 170 - 194 ج 8 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وإسحق بن إبراهيم، جميعا: عن حاتم. قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسمعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه. قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن [ ص: 422 ] القوم حتى انتهى إلي. فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب. فقال: مرحبا بك يا ابن أخي! سل عما شئت. فسألته. وهو أعمى. وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجة (ملتحفا بها) . كلما وضعها على منكبه، رجع طرفاها إليه، من صغرها. ورداؤه إلى جنبه، على المشجب. فصلى بنا. فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بيده: "فعقد تسعا". فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكث تسع سنين لم يحج. ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير. كلهم يلتمس: أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه، حتى أتينا (ذا الحليفة) . فولدت أسماء بنت عميس: محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب. وأحرمي". فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. ثم ركب القصواء. حتى إذا استوت به ناقته على البيداء. نظرت إلى مد بصري (بين يديه) : من راكب وماش. و(عن يمينه) : مثل ذلك. و(عن يساره) : مثل ذلك. و(من خلفه) : مثل ذلك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا. وعليه ينزل القرآن. وهو يعرف تأويله. وما عمل به من شيء، عملنا به. فأهل بالتوحيد: "لبيك اللهم! لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه، ولزم [ ص: 423 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته. قال جابر (رضي الله عنه) : لسنا ننوي إلا الحج. لسنا نعرف العمرة. حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن: فرمل ثلاثا، ومشى أربعا. ثم نفذ إلى مقام إبراهيم (عليه السلام) . فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .فجعل المقام بينه وبين البيت. فكان أبي يقول (ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم) : كان يقرأ في الركعتين: (قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون.) ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة: فوحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده. أنجز وعده. ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده". ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا (ثلاث مرات) . ثم نزل إلى المروة. حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي: سعى. حتى إذا صعدتا: مشى. حتى أتى المروة. ففعل على المروة كما فعل على الصفا. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة. فقال: لو أني استقبلت من أمري، ما استدبرت: لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل. وليجعلها عمرة". فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه: واحدة في الأخرى. وقال: "دخلت العمرة في الحج" مرتين "لا بل لأبد أبد". وقدم علي [ ص: 424 ] من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة (رضي الله عنها) : ممن حل. ولبست ثيابا صبيغا. واكتحلت. فأنكر ذلك عليها. فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، محرشا على فاطمة، للذي صنعت. مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه. فأخبرته: أني أنكرت ذلك عليها. فقال: "صدقت. صدقت. ماذا قلت حين فرضت الحج؟" قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: "فإن معي الهدي، فلا تحل" قال: فكان جماعة الهدي "الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم": مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا. إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية: توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلا، حتى طلعت الشمس. وأمر بقبة من شعر، تضرب له بنمرة. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش. إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية. فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس: أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية: تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن الحارث. [ ص: 425 ] كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع: ربانا -ربا عباس بن عبد المطلب- فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمان الله. واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكم عليهن: أن لا يوطئن فرشكم، أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم: ما لن تضلوا بعده، إن اعتصمتم به: كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد: أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت. فقال (بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس) : "اللهم! اشهد. اللهم؟ اشهد." ثلاث مرات. ثم أذن. ثم أقام فصلى الظهر. ثم أقام، فصلى العصر. ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات. وجعل حبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة. فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص. وأردف (أسامة) خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها، ليصيب مورك رحله. ويقول (بيده اليمنى) : "أيها الناس! السكينة السكينة". كلما أتى حبلا من الحبال، أرخى لها قليلا، حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى طلع الفجر: وصلى الفجر [ ص: 426 ] "حين تبين له الصبح" بأذان وإقامة ثم ركب القصواء. حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأردف الفضل بن عباس: "وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما" فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرت به ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل. فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر. فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر، على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر، ينظر حتى أتى بطن محسر. فحرك قليلا. ثم سلك الطريق الوسطى، التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها. (مثل حصى الخذف) . رمى من بطن الوادي. ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده. ثم أعطى عليا، فنحر ما غبر. وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت. فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر. فأتى بني عبد المطلب، يسقون على زمزم فقال: "انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم".

                                                                                                                              فناولوه دلوا، فشرب منه.
                                                                                                                              ]

                                                                                                                              [ ص: 427 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 427 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن جعفر بن محمد، عن أبيه ، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما ، (فسأل عن القوم حتى انتهى إلي) .

                                                                                                                              فيه: أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون ، أو ضيفان ، ونحوهم ،:

                                                                                                                              أن يسأل عنهم ، لينزلهم منازلهم. كما جاء في حديث عائشة:

                                                                                                                              " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ننزل الناس منازلهم".

                                                                                                                              (فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين ، فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الأعلى ، ثم نزع زري الأسفل. ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب. فقال: مرحبا بك يا ابن أخي!) .

                                                                                                                              فيه: إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما فعل جابر بمحمد بن علي.

                                                                                                                              وملاطفة الزائر ، بما يليق به ، وتأنيسه.

                                                                                                                              وهذا سبب حل جابر: زري محمد بن علي ، ووضع يده بين ثدييه. وفيه: جواز تسمية (الثدي) ، للرجل. وفيه خلاف لأهل اللغة ; منهم: من جوزه كالمرأة.

                                                                                                                              ومنهم: من منعه. وقال يختص (الثدي) بالمرأة. ويقال في الرجل: (ثندوة) . [ ص: 428 ] وفيه: استحباب قوله (للزائر والضيف ونحوهما) : مرحبا.

                                                                                                                              وفيه: تنبيه على أن سبب فعل جابر (ذلك التأنيس) : لكونه صغيرا. وأما الرجل الكبير ، فلا يحسن إدخال اليد في جبته ، والمسح بين ثدييه.

                                                                                                                              (سل عما شئت. فسألته " وهو أعمى ". وحضر وقت الصلاة. فقام في نساجة) بكسر النون وتخفيف السين ، وبالجيم.

                                                                                                                              قال النووي: هذا ، هو المشهور في نسخ بلادنا ، ورواياتنا لصحيح مسلم ، وسنن أبي داود.

                                                                                                                              ووقع في بعض النسخ: (في ساجة) . بحذف النون. ونقله عياض ، عن رواية الجمهور. قال: وهو الصواب.

                                                                                                                              قال: والساجة والساج جميعا: الثوب. كالطيلسان ، وشبهه.

                                                                                                                              قال: ورواية النون ، وقعت في رواية الفارسي. قال: ومعناه: ثوب ملفق.

                                                                                                                              قال: قال بعضهم: النون خطأ وتصحيف. قلت: ليس كذلك ، بل كلاهما صحيح.

                                                                                                                              ويكون ثوبا ملفقا، على هيئة الطيلسان.

                                                                                                                              قال عياض في (المشارق) : الساج والساجة: الطيلسان. وجمعه:

                                                                                                                              (سيجان) . قال: وقيل: هي الخضر منها خاصة.

                                                                                                                              [ ص: 429 ] وقال الأزهري: هو طيلسان مقور، ينسج كذلك.

                                                                                                                              قال: وقيل: هو الطيلسان الحسن.

                                                                                                                              قال: وقيل: (الطيلسان) بفتح اللام ، وكسرها ، (وضمها) وهي أقل.

                                                                                                                              (ملتحفا بها. كلما وضعها على منكبه ، رجع طرفاها إليه ، من صغرها. ورداؤه إلى جنبه ، على المشجب) بكسر الميم وإسكان الشين ، وجيم ، ثم باء: اسم لأعواد ، يوضع عليها الثياب ، ومتاع البيت. (فصلى بنا) .

                                                                                                                              فيه: جواز إمامة (الأعمى) : البصراء. ولا خلاف في جواز ذلك. لكن اختلفوا في الأفضل ، على ثلاثة أوجه ;

                                                                                                                              أحدها: أن إمامة الأعمى ، أفضل من إمامة البصير. لأن الأعمى: أكمل خشوعا، لعدم نظره إلى الملهيات.

                                                                                                                              والثاني: أن البصير أفضل. لأنه: أكثر احترازا من النجاسات.

                                                                                                                              الثالث: هما سواء ، لتعادل فضيلتهما.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا الثالث ، هو الأصح عند أصحابنا. وهو نص الشافعي.

                                                                                                                              وفيه: أن صاحب البيت ، أحق بالإمامة ، من غيره.

                                                                                                                              وفيه: جواز الصلاة في ثوب واحد ، مع التمكن من الزيادة عليه.

                                                                                                                              (فقلت: أخبرني ، عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم) . بكسر الحاء وفتحها.

                                                                                                                              والمراد: (حجة الوداع) .

                                                                                                                              [ ص: 430 ] (فقال بيده: (فعقد تسعا) فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكث تسع سنين لم يحج) .

                                                                                                                              يعني: مكث بالمدينة بعد الهجرة.

                                                                                                                              (ثم أذن في الناس في العاشرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج) .

                                                                                                                              أي: أعلمهم بذلك ، وأشاعه بينهم ، ليتأهبوا للحج معه ، ويتعلموا المناسك والأحكام ، ويشهدوا أقواله وأفعاله. ويوصيهم ، ليبلغ الشاهد الغائب ، وتشيع دعوة الإسلام ، وتبلغ الرسالة: القريب والبعيد.

                                                                                                                              وفيه: أنه يستحب للإمام ، إيذان الناس: بالأمور المهمة، ليتأهبوا لها.

                                                                                                                              (فقدم المدينة بشر كثير) .

                                                                                                                              قال: الشيخ (عبد الحق) الدهلوي في (اللمعات) : ورد في بعض الروايات: أنهم كانوا أكثر من الحصر والإحصاء. ولم يعينوا عددهم. وقد بلغوا في غزوة تبوك ، التي هي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم: (مائة ألف) . وحجة الوداع ، كانت بعد ذلك. ولا بد أن يزدادوا فيها.

                                                                                                                              ويروى: (مائة ألف وأربعة عشر ألفا) .

                                                                                                                              وفي رواية: (مائة ألف وأربعة وعشرون) .

                                                                                                                              والله أعلم.

                                                                                                                              (كلهم يلتمس: أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله) .

                                                                                                                              قال عياض: هذا مما يدل على: أنهم كلهم ، أحرموا بالحج. لأنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 431 ] أحرم بالحج ، وهم لا يخالفونه. ولهذا قال جابر: (وما عمل من شيء عملنا به) .

                                                                                                                              ومثله: توقفهم عن التحلل بالعمرة ، ما لم يتحلل ، حتى أغضبوه. واعتذر إليهم.

                                                                                                                              ومثله: تعليق علي، وأبي موسى ، إحرامهما على إحرام النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              (فخرجنا معه ، حتى أتينا " ذا الحليفة ". فولدت أسماء بنت عميس: محمد بن أبي بكر) رضي الله عنه ، (فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع ؟ قال: " اغتسلي. واستثفري بثوب. وأحرمي ".)

                                                                                                                              فيه: استحباب ، غسل الإحرام للنفساء.

                                                                                                                              (والاستثفار) : أن تشد في وسطها شيئا ، وتأخذ خرقة عريضة ، تجعلها على محل الدم ، وتشد طرفيها من قدامها ، ومن ورائها ، في ذلك المشدود في وسطها. وهو شبيه (بثفر الدابة) . بفتح الفاء.

                                                                                                                              وفيه: صحة إحرام النفساء. وهو مجمع عليه.

                                                                                                                              (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) : ركعتين.

                                                                                                                              فيه: استحباب ركعتي الإحرام.

                                                                                                                              (في المسجد) . أي: مسجد ذي الحليفة. قال في (سبل السلام) :

                                                                                                                              أي: صلاة الفجر. كذا ذكره النووي ، في (شرح مسلم) . انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 432 ] قلت: لم أجده في (شرح مسلم) .

                                                                                                                              قال: والذي في (الهدي النبوي) : أنها صلاة الظهر. وهو الأولى. لأن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى خمس صلوات (بذي الحليفة) ، الخامسة: هي الظهر. وسافر بعدها.

                                                                                                                              (ثم ركب القصواء) . بفتح القاف وبالمد.

                                                                                                                              قال عياض. ووقع في نسخة العذري: (القصوى) . بضم القاف ، والقصر. قال: وهو خطأ.

                                                                                                                              قال القاضي: قال ابن قتيبة: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نوق: (القصواء. والجدعاء. والعضباء) .

                                                                                                                              قال أبو عبيد: (العضباء) : اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم. ولم تسم بذلك لشيء أصابها.

                                                                                                                              قال عياض: قد ذكر هنا: أنه ركب (القصواء) .

                                                                                                                              وفي آخر هذا الحديث: (خطب على القصواء) . [ ص: 433 ] وفي غير مسلم: (خطب على ناقته الجدعاء) .

                                                                                                                              وفي حديث آخر: (على ناقة خرماء) .

                                                                                                                              وفي آخر: (العضباء) .

                                                                                                                              وفي حديث آخر: (كانت له ناقة لا تسبق) .

                                                                                                                              وفي آخر: (تسمى مخضرمة) .

                                                                                                                              وهذا كله ، يدل على: أنها ناقة واحدة. خلاف ما قاله ابن قتيبة: وأن هذا ، كان اسمها ; أو وصفها لهذا الذي بها. خلاف ما قال أبو عبيد لكن ورد في كتاب (النذر) : أن القصواء غير العضباء.

                                                                                                                              قال الحربي: العضب ، والجدع ، والخرم ، والقصو ، والخضرمة: في الآذان.

                                                                                                                              قال ابن الأعرابي: (القصواء) : التي قطع طرف أذنها. والجدع: أكثر منه. وقال الأصمعي: والقصو مثله.

                                                                                                                              قال: وكل قطع في الأذن: جدع. فإن جاوز الربع فهي: عضباء. والمخضرم: مقطوع الأذنين. فإن اصطلمتا فهي: صلماء.

                                                                                                                              وقال أبو عبيد: القصواء: المقطوعة الأذن عرضا. والمخضرمة: المستأصلة ، والمقطوعة النصف فما فوقه.

                                                                                                                              [ ص: 434 ] وقال الخليل: المخضرمة: مقطوعة الواحدة. والعضباء: مشقوقة الأذن.

                                                                                                                              قال الحربي: فالحديث يدل على: أن (العضباء) اسم لها. وإن كانت عضباء الأذن ، فقد جعل اسمها.

                                                                                                                              هذا آخر كلام القاضي.

                                                                                                                              وقال محمد بن إبراهيم التيمي التابعي ، وغيره ،: إن العضباء ، والقصواء ، والجدعاء: اسم لناقة واحدة ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              (حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مد بصري) .

                                                                                                                              هكذا في جميع النسخ. وهو صحيح. ومعناه: منتهى بصري.

                                                                                                                              وأنكر بعض أهل اللغة: (مد بصري) . وقال: الصواب: (مدى بصري) .

                                                                                                                              قال النووي: وليس هو منكر. بل هما لغتان. المد أشهر.

                                                                                                                              ("بين يديه ": من راكب وماش. "وعن يمينه ": مثل ذلك.

                                                                                                                              و " عن يساره ": مثل ذلك. "و من خلفه ": مثل ذلك) .

                                                                                                                              فيه: جواز الحج ، راكبا وماشيا. قال النووي: وهو مجمع عليه.

                                                                                                                              وقد تظاهرت عليه: دلائل الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة. قال تعالى:

                                                                                                                              وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر [ ص: 435 ] واختلف العلماء ، في الأفضل منهما ;

                                                                                                                              فقال مالك ، والشافعي ، وجمهور العلماء: الركوب أفضل ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولأنه: أعون له على وظائف مناسكه. ولأنه: أكثر نفقة.

                                                                                                                              وقال داود: ماشيا أفضل ، لمشقته. قال النووي: وهذا فاسد: لأن المشقة ، ليست مطلوبة.

                                                                                                                              قلت: لم يرد ما يدل على أفضلية أحدهما ، على الآخر. والقرآن الكريم ، يشير إلى: أنهما سواسية. والنبي صلى الله عليه وسلم حج راكبا. فالكل واسع.

                                                                                                                              (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا. وعليه ينزل القرآن. وهو يعرف تأويله) .

                                                                                                                              معناه: الحث على التمسك بما أخبركم عن فعله ، في حجته تلك.

                                                                                                                              (وما عمل به من شيء ، عملنا به) . وهذا يوافق قوله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .

                                                                                                                              (فأهل بالتوحيد) أي: رفع صوته بإفراد (التلبية) ، لله وحده ، بقوله:

                                                                                                                              (لبيك اللهم! لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك.) .

                                                                                                                              [ ص: 436 ] قال النووي: فيه: إشارة ، إلى مخالفة ما كانت الجاهلية تقوله في تلبيتها ، من لفظ الشرك. انتهى.

                                                                                                                              قال في (سبل السلام) : وكانت الجاهلية ، تزيد في التلبية: (إلا شريكا هو لك. تملكه وما ملك) .

                                                                                                                              (إن الحمد) بفتح الهمزة وكسرها. قال في (السبل) : والمعنى واحد. وهو التعليل.

                                                                                                                              (" والنعمة لك والملك لا شريك لك ". وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه. ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته) .

                                                                                                                              قال عياض: فيه: إشارة إلى ما روي ، من زيادة الناس في التلبية ، من الثناء والذكر. كما روي في ذلك عن عمر (رضي الله عنه) ، أنه كان يزيد:(لبيك ذا النعماء والفضل الحسن. لبيك مرهوبا منك ، ومرغوبا إليك) .. وعن ابن عمر (رضي الله عنه) : (لبيك وسعديك. والخير بيديك ، والرغباء إليك والعمل) . وعن أنس رضي الله عنه) :

                                                                                                                              (لبيك حقا ، تعبدا ورقا) .

                                                                                                                              قال عياض: قال أكثر العلماء: المستحب ، الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبه قال مالك ، والشافعي. انتهى. [ ص: 437 ] قلت: الظاهر: أن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، في التلبية ، وغيرها من شرائع الدين: فضيلة ، وشرف ، ومكرمة ، لا يساويها شيء. وإن جاز الزيادة ، في الثناء على الله سبحانه وتعالى. وقد قررها النبي صلى الله عليه وسلم. وخير الناس في الدعاء بما شاءوا. ولكن لا يلقى ذلك ، إلا ذو حظ عظيم من المسلمين.

                                                                                                                              (قال جابر "رضي الله عنه ": لسنا ننوي إلا الحج. لسنا نعرف العمرة.) .

                                                                                                                              قال النووي: فيه: دليل لمن قال بترجيح الإفراد. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولا دلالة فيه ، على هذا الرجحان. وقد تقدم الجواب عنه فيما سبق ، في موضعه من البيان.

                                                                                                                              (حتى إذا أتينا البيت معه) .

                                                                                                                              فيه: بيان: أن السنة للحجاج: أن يدخلوا مكة ، قبل الوقوف بعرفات ، ليطوفوا للقدوم وغير ذلك.

                                                                                                                              (استلم الركن) أي: الركن الأسود. وإليه ينصرف (الركن) ، عند الإطلاق.

                                                                                                                              واستلامه: أن يقبله: أو يمسه ويمسحه (باليد) ، إن تيسر. وهو [ ص: 438 ] (افتعل) من السلام. بمعنى: "التحية ". ولذلك يسمونه أهل اليمن: (المحيا) أي: الناس يحيونه. أي: يسلمون عليه.

                                                                                                                              وقيل: افتعال من (السلام) . بمعنى الحجارة. واحدتها: (سلمة) . بكسر اللام. يقال: استلم الحجر، إذا لمسه.

                                                                                                                              (فرمل) في طوافه بالبيت. أي: أسرع في مشيه، مهرولا. (ثلاثا) أي: مرات. (ومشى أربعا) .

                                                                                                                              فيه: أن (المحرم) ، إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات ، يسن له:

                                                                                                                              طواف القدوم. وهو مجمع عليه.

                                                                                                                              قاله النووي. وقد تقدم ، أن هذا الطواف واجب لا سنة.

                                                                                                                              قال: وفيه: أن الطواف ، سبع طوافات.

                                                                                                                              وفيه: أن (السنة) أيضا: الرمل في الثلاث الأول. ومشى على عادته ، في الأربع الأخيرة.

                                                                                                                              قال العلماء: الرمل: هو أسرع المشي ، مع تقارب الخطا. وهو الخبب.

                                                                                                                              قال الشافعية: ولا يستحب الرمل ، إلا في طواف واحد: في حج أو عمرة. أما إذا طاف في غير حج أو عمرة ، فلا رمل بلا خلاف.

                                                                                                                              ولا يسرع أيضا ، في كل طواف حج. وإنما يسرع في واحد منها. وفيه قولان للشافعي ، أصحهما: طواف يعقبه سعي. ويتصور ذلك ، [ ص: 439 ] في طواف القدوم. ويتصور ، في طواف الإفاضة. ولا يتصور ، في طواف الوداع.

                                                                                                                              الثاني: أنه لا يسرع إلا في طواف القدوم. سواء أراد السعي بعده ، أم لا. ويسرع في طواف العمرة. إذ ليس فيها ، إلا طواف واحد.

                                                                                                                              قال النووي: والاضطباع (سنة) في الطواف. وقد صح فيه الحديث ; في سنن أبي داود ، والترمذي ، وغيرهما. وهو: (أن يجعل وسط ردائه ، تحت عاتقه الأيمن. ويجعل طرفيه ، على عاتقه الأيسر ، ويكون منكبه الأيمن مكشوفا) . انتهى.

                                                                                                                              وقال في (النيل) : هذه الهيئة ، هي المذكورة في حديث ابن عباس.

                                                                                                                              والحكمة في فعله: أنه يعين على إسراع المشي. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولفظ الحديث عند أحمد، وأبي داود ;

                                                                                                                              (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ، اعتمروا من جعرانة: فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت إباطهم. ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى) .

                                                                                                                              وهذا الحديث ، سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، والحافظ في (التلخيص) ورجاله رجال الصحيح.

                                                                                                                              وقد نص النووي على صحته. ثم قال: قالوا: وإنما يسن الاضطباع ، في طواف يسن فيه الرمل.



                                                                                                                              (ثم نفذ إلى مقام إبراهيم " عليه السلام " ، فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ") . [ ص: 440 ] وهو: اسم (حجر) ، فيه أثر قدميه " عليه السلام"، موضوع قبالة البيت.

                                                                                                                              (فجعل: "المقام " بينه وبين البيت) . هذا دليل ، لما أجمع عليه العلماء: أنه ينبغي لكل طائف ، (إذا فرغ من طوافه) : أن يصلي خلف المقام: ركعتي الطواف.

                                                                                                                              واختلفوا: هل هما واجبتان ، أم سنتان ؟

                                                                                                                              قال النووي: وعندنا فيه خلاف. حاصله: ثلاثة أقوال. أصحها:

                                                                                                                              أنهما سنة.

                                                                                                                              الثاني: واجبتان.

                                                                                                                              والثالث: إن كان طوافا واجبا فواجبتان، وإلا فسنتان.

                                                                                                                              قال: وسواء قلنا: واجبتان أو سنتان ، لو تركهما ، لم يبطل طوافه. انتهى.

                                                                                                                              قلت: الحق: (الثاني) من هذه الأقوال الثلاثة. وإليه جنح شارح (المنتقى) . وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.

                                                                                                                              قال في (السيل الجرار) : هذا ، ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم، الذي هو بيان لمجمل القرآن والسنة. وفي حديث (جابر) الطويل ، الذي وصف فيه ، حج النبي صلى الله عليه وسلم: (لما انتهى إلى مقام إبراهيم ، قرأ الآية ; فصلى ركعتين) . [ ص: 441 ] فقراءته للآية ، تدل على أنها: واردة في صلاة هاتين الركعتين. فيكون ذلك دليلا قرآنيا بخصوصهما.

                                                                                                                              والناسي لهما ، يقضيهما عند الذكر: في أيام التشريق ، أو غيرها. هذا ، إن ورد دليل يدل على القضاء. وإلا فالنسيان ، عذر مسوغ للترك وعدم المؤاخذة. كما حققنا ذلك في غير موضع. انتهى.

                                                                                                                              ثم قال النووي: والسنة: أن يصليهما خلف المقام. فإن لم يفعل ففي الحجر. وإلا ففي المسجد. وإلا ففي (مكة) وسائر الحرم.

                                                                                                                              ولو صلاهما في وطنه ، وغيره من أقاصي الأرض ، جاز. وفاتته الفضيلة. ولا تفوت هذه الصلاة مادام حيا. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وهذه كلها ، أمارة لوجوبهما. فتأمل.

                                                                                                                              قيل: الأمر في الآية ، دال على الوجوب.

                                                                                                                              قال في (الفتح) : لكن انعقد الإجماع ، على جواز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة. فدل على عدم التخصيص. وهذا بناء على أن المراد بالمقام: (الذي فيه أثر قدميه) . وهو موجود الآن.

                                                                                                                              وقال مجاهد: المراد بالمقام: الحرم كله.

                                                                                                                              والأول أصح. انتهى.

                                                                                                                              ثم قال النووي: ولو أراد أن يطوف أطوفة ; استحب أن يصلي (عقب كل طواف) : ركعتيه.

                                                                                                                              [ ص: 442 ] فلو أراد أن يطوف (أطوفة) بلا صلاة ، ثم يصلي بعد الأطوفة: لكل طواف ركعتيه. قال الشافعية: يجوز ذلك ، وهو خلاف الأولى. ولا يقال: مكروه.

                                                                                                                              وممن قال بهذا: المسور بن مخرمة ، وعائشة ، وطاوس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو يوسف.

                                                                                                                              وكرهه ابن عمر ، والحسن البصري ، والزهري ، ومالك ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، ومحمد بن الحسن ، وابن المنذر.

                                                                                                                              ونقله عياض ، عن جمهور الفقهاء.

                                                                                                                              (فكان أبي يقول: " ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين: قل هو الله أحد ، وقل يا أيها الكافرون) معناه:

                                                                                                                              أن (جعفر بن محمد) روى هذا الحديث عن أبيه ، عن جابر ، فقال: (كان أبي) يعني: محمدا (يقول: إنه قرأ هاتين السورتين) . قال جعفر: (ولا أعلم أبي ، ذكر تلك القراءة ، عن قراءة جابر في صلاة جابر. بل عن جابر ، عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، في صلاة هاتين الركعتين) . يعني: قرأ في الركعة الأولى: قل يا أيها الكافرون. وفي الثانية: قل هو الله أحد. بعد الفاتحة.

                                                                                                                              وقوله: (لا أعلم إلخ) ، ليس شكا في ذلك. لأن لفظة (العلم) تنافي الشك. بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              وقد ذكره (البيهقي) بإسناد صحيح ، على شرط مسلم:

                                                                                                                              [ ص: 443 ] (عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، طاف بالبيت: فرمل من الحجر الأسود ثلاثا. ثم صلى ركعتين ; قرأ فيهما: قل يا أيها الكافرون. وقل هو الله أحد) .

                                                                                                                              (ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا.) .

                                                                                                                              فيه: دلالة على استحباب ، عود الطائف (بعد الطواف. وهاتين الركعتين) : إلى الحجر الأسود واستلامه ، والخروج من باب الصفا ليسعى.

                                                                                                                              قال النووي: واتفقوا على: أن هذا الاستلام ، ليس بواجب ، وإنما هو سنة ، لو تركه لم يلزمه دم.

                                                                                                                              (فلما دنا من الصفا ، قرأ: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ) .

                                                                                                                              فيه: دليل على أنها ، تستحب قراءة هذه الآية ، عند الدنو من الصفا.

                                                                                                                              ("أبدأ بما بدأ الله به) . فبدأ بالصفا ، فرقى عليه) بفتح القاف.

                                                                                                                              (حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره) .

                                                                                                                              وبين ذلك بقوله: (وقال: " لا إله إلا الله وحده. لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ") : إظهاره تعالى للدين.

                                                                                                                              [ ص: 444 ] (ونصر عبده) يريد به: نفسه الكريمة.

                                                                                                                              (وهزم الأحزاب وحده) أي: هزمهم ، بغير قتال من الآدميين ، ولا بسبب من جهتهم.

                                                                                                                              والمراد (بالأحزاب) : الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الخندق.

                                                                                                                              وكان الخندق ، في شوال: سنة أربع من الهجرة. وقيل: سنة خمس.

                                                                                                                              قاله النووي.

                                                                                                                              قلت: وفيه: استحباب شكر الله تعالى (على نعمه وإحسانه) ، ولو بعد حين.

                                                                                                                              قال في (سبل السلام) : أشار إليه قوله تعالى: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها .

                                                                                                                              أو المراد: كل من تحزب لحزبه صلى الله عليه وسلم، فإنه هزمهم.

                                                                                                                              (ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا: ثلاث مرات) .

                                                                                                                              وفي هذا أنواع من المناسك ;

                                                                                                                              [ ص: 445 ] منها: أن السعي ، يشترط فيه: أن يبدأ من الصفا. وبه قال الشافعي ; ومالك ، والجمهور.

                                                                                                                              وقد ثبت في رواية (النسائي) في هذا الحديث ، بإسناد صحيح:

                                                                                                                              (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ابدأوا بما بدأ الله به ") . هكذا بصيغة الجمع.

                                                                                                                              ومنها: أنه ينبغي ، أن يرقى على الصفا والمروة.

                                                                                                                              وفي هذا الرقي خلاف. قال جمهور الشافعية: هو (سنة) ليس بشرط ولا واجب. فلو تركه صح سعيه. لكن فاتته الفضيلة.

                                                                                                                              وقال أبو حفص (ابن الوكيل) منهم: لا يصح سعيه ، حتى يصعد على شيء من الصفا.

                                                                                                                              قال النووي: والصواب الأول ، لكن يشترط: أن لا يترك شيئا ، من المسافة بين الصفا والمروة. فليلصق (عقبيه) : بدرج الصفا. وإذا وصل المروة ، ألصق أصابع رجليه: بدرجها. وهكذا في (المرات السبع) : يشترط في كل مرة ، أن يلصق عقبيه بما يبدأ منه. وأصابعه بما ينتهي إليه. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ليس على هذا الكلام ، أثارة من علم. والذي يترجح:

                                                                                                                              [ ص: 446 ] أن الرقي واجب. والحديث يرد على من خالفه: إلى إلصاق الأصابع وغيره.

                                                                                                                              قال في (النيل) : قد تقدم أن فعله صلى الله عليه وسلم، بيان لمجمل واجب. انتهى.

                                                                                                                              وفيه: أن يرقى عليهما ، حتى يرى (البيت) إن أمكنه ، وأنه: يسن الوقوف على الصفا ، مستقبل الكعبة. ويذكر الله بهذا الذكر المذكور. ويدعو ، ويكرر الذكر والدعاء (ثلاث مرات) . وقيل: (مرتين) .

                                                                                                                              قال النووي: والصواب الأول.

                                                                                                                              وفي (السبل) : دل على أنه ، كرر الذكر المذكور: (ثلاثا) .

                                                                                                                              (ثم نزل) من الصفا ، منتهيا: إلى المروة. حتى إذا انصبت " قدماه " في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا ، مشى. حتى أتى المروة) . هكذا هو في النسخ.

                                                                                                                              وكذا نقله (عياض) عن جميع النسخ. قال: وفيه إسقاط (لفظة) لا بد منها. وهي: حتى انصبت قدماه: "رمل" في بطن الوادي.

                                                                                                                              ولا بد منها.

                                                                                                                              وقد ثبتت هذه (اللفظة) ، في غير رواية مسلم. وكذا ذكره (الحميدي) في الجمع بين الصحيحين.

                                                                                                                              [ ص: 447 ] وفي الموطإ: (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى. حتى خرج منه) . وهو معنى: (رمل) . انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم ، كما في الموطإ وغيره.

                                                                                                                              قال: وفي هذا الحديث: استحباب السعي الشديد ، في بطن الوادي ، حتى يصعد ، ثم يمشي باقي المسافة إلى (المروة) ، على عادة مشيه.

                                                                                                                              قال: وهذا السعي ، مستحب في كل مرة ، من المرات السبع ، في هذا الموضع. والمشي مستحب: فيما قبل الوادي ، وبعده.

                                                                                                                              ولو مشى في الجميع ، أو سعى في الجميع: أجزأه. وفاتته الفضيلة. هذا مذهب الشافعي وموافقيه.

                                                                                                                              وعن (مالك) فيمن ترك السعي الشديد في موضعه ، روايتان: إحداهما: كما ذكرنا. والثاني: تجب عليه إعادته. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وهذا يدل على إيجاب السعي.

                                                                                                                              وفي الحديث الآخر: (إنما جعل الطواف " بالبيت ، وبالصفا والمروة " ، ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله) .

                                                                                                                              قال في (السيل الجرار) : ولم يرد ما يدل ، على تخصيص الرجال بذلك. وهو الصواب. [ ص: 448 ] (ففعل على المروة ، كما فعل على الصفا) : من استقبال القبلة ، إلى آخر ما ذكر.

                                                                                                                              (حتى إذا كان آخر طوافه على المروة) .

                                                                                                                              فيه: أن الذهاب (من الصفا إلى المروة) : يحسب مرة. والرجوع إلى الصفا: ثانية. والرجوع إلى المروة: ثالثة. وهكذا.

                                                                                                                              قال فيكون ابتداء (السبع) : من الصفا. وآخرها: بالمروة. وهو مذهب الشافعي والجمهور.

                                                                                                                              وقال ابن بنت الشافعي ، وأبو بكر الصيرفي: يحسب الذهاب إلى المروة ، والرجوع إلى الصفا: مرة واحدة. فيقع آخر السبع في الصفا.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا الحديث الصحيح ، يرد عليهما. وكذلك عمل المسلمين ، على تعاقب الأزمان. انتهى.

                                                                                                                              قال في (النيل) : ويدل على الأول ، حديث جابر: (أنه صلى الله عليه وسلم، فرغ من آخر سعيه بالمروة) . انتهى.

                                                                                                                              وعبارة (السيل الجرار) : وهو (من الصفا إلى المروة) : شوط. ثم منها إليه: كذلك.

                                                                                                                              قال: وهذا هو الحق. ومن خالف في ذلك ، فقد غلط غلطا بينا.

                                                                                                                              وعلى هذا سلف هذه الأمة وخلفها. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله [ ص: 449 ] وبارك وسلم: أنه بدأ بالصفا. وثبت عنه ، في الصحيحين وغيرهما: أنه طاف بين الصفا والمروة " سبعا ".

                                                                                                                              وهذا فيه غاية البيان.

                                                                                                                              فلو كان السعي من الصفا إلى المروة ، ثم منها إليه: شوطا ، لكان قد طاف بين الصفا والمروة: أربع عشرة مرة ، لا سبعا فقط.

                                                                                                                              قال: وأما كونه متواليا ، فهكذا كان سعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأما كونه على طهارة ، فلم يرد ما يدل على ذلك.

                                                                                                                              وأما اشتراط الترتيب (بين الطواف والسعي) ، فهذا كان فعله ، وفعل أصحابه ; من تقديم الطواف على السعي. انتهى.

                                                                                                                              (قال: لو أني استقبلت من أمري ، ما استدبرت ، لم أسق الهدي ; وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ، ليس معه هدي فليحل. وليجعلها عمرة) .

                                                                                                                              وفيه: دلالة على جواز: فسخ الحج إلى العمرة ، لكل أحد. وبه قال أحمد ، وطائفة من أهل الظاهر.

                                                                                                                              وقال الأئمة الثلاثة ، وغيرهم: هذا الفسخ ، مختص بتلك السنة.

                                                                                                                              لا يجوز بعدها. [ ص: 450 ] والحق: الأول. وقد سبقت المسألة ، فراجع.

                                                                                                                              قال في (النيل) : إن هذه السنة ، عامة لجميع الأمة. يعني: إلى يوم القيامة.

                                                                                                                              وفيه: دليل على أفضلية التمتع ، من الإفراد والقران.

                                                                                                                              وقد أطال في (الهدي النبوي) : في إثبات هذا الفسخ ، وعموم حكمه إلى آخر الدهر ، وشد عضده بأدلة صحيحة صريحة ، لا تبقي لأحد مجالا إلى إنكاره. ولا شك: أن الحق في هذا الموضع معه ، ومع موافقيه. ومن عارضه بكلامه ، فعلى نفسها براقش تجني.

                                                                                                                              (فقام سراقة بن مالك بن جعشم ،) بضم الجيم وبضم الشين المعجمة ، وفتحها. ذكره الجوهري وغيره.

                                                                                                                              فقال: يا رسول الله ! ألعامنا هذا ، أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه: واحدة في الأخرى. وقال: " دخلت العمرة في الحج " مرتين. "لا. بل لأبد أبد".)

                                                                                                                              وفي رواية (البخاري في حديث آخر:

                                                                                                                              (عن جابر: ثم قام سراقة بن مالك ، فقال: يا رسول الله ! أرأيت متعتنا هذه ؟ لعامنا هذا ، أم للأبد ؟) .

                                                                                                                              أي: مخصوصة به ، لا تجوز في غيره ، أم لجميع الأعصار ؟ فقال: بل هي للأبد. أي: لا يختص به. بل لجميعها إلى أبد الآباد. [ ص: 451 ] وهذا أصرح دليل ، على فسخ الحج إلى العمرة. والحديث في الصحيحين. وهذا القدر يكفي ، في الدلالة على المقصود.

                                                                                                                              وليس في الباب ، ما يصلح لمعارضة ذلك.

                                                                                                                              قال شارح (المنتقى) : ليس في المقام متمسك (بيد المانعين) يعتد به ، أو يصلح لنصبه ، في مقابلة هذه السنة المتواترة.

                                                                                                                              قال ابن القيم في: الهدي (بعد أن ذكر حديث البراء ، وغضبه صلى الله عليه وسلم، لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ) : ونحن نشهد الله علينا ، أنا لو أحرمنا بحج ، لرأينا فرضا علينا: فسخه إلى عمرة ، تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعا لأمره. فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده. ولا صح حرف واحد يعارضه ، ولا خص به أصحابه دون من بعدهم ، بل أجرى الله على لسان سراقة ، أن سأله: هل ذلك مختص بهم أم لا ؟ فأجابه: بأن ذلك كائن لأبد الأبد. فما ندري ! ما يقدم على هذه الأحاديث ، وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خالفه؟. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وهذا الحديث ، سبق شرحه واضحا ، في الأبواب التي قبل هذا.



                                                                                                                              (وقدم علي من اليمن ، ببدن النبي صلى الله عليه وسلم) جمع: " بدنة " بفتحتين.

                                                                                                                              وهي من الإبل خاصة ، عند الشافعي. ويشمل البقر ، عند الحنفية. [ ص: 452 ] (فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل. ولبست ثيابا صبيغا ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها.) فيه: إنكار الرجل على زوجته ، ما رآه منها: من نقص في دينها ، لأنه ظن أن ذلك لا يجوز ، فأنكره.

                                                                                                                              (فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول (بالعراق) : فذهبت إلى رسول الله محرشا على فاطمة) . التحريش: الإغراء. والمراد هنا: أن يذكر له ، ما يقتضي عتابها.

                                                                                                                              (للذي صنعت. مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما ذكرت عنه. فأخبرته: أني أنكرت ذلك عليها. فقال: " صدقت. صدقت. ماذا قلت حين فرضت الحج ؟". قال: قلت: اللهم ! إني أهل بما أهل به رسولك) .

                                                                                                                              فيه: أنه يجوز: تعليق الإحرام بإحرام ، كإحرام فلان. وقد سبق شرحه ، في الأبواب السابقة.

                                                                                                                              (قال: " فإن معي الهدي فلا تحل". قال: فكان جماعة الهدي " الذي قدم به علي من اليمن ، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم": مائة. قال: فحل الناس) . الذين لم يسوقوا الهدي.

                                                                                                                              (كلهم. وقصروا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه هدي.) هذا أيضا ، تقدم شرحه في الكتاب. [ ص: 453 ] وفيه: إطلاق لفظ العام ، وإرادة الخاص. لأن عائشة لم تحل ، ولم تكن ممن ساق الهدي.

                                                                                                                              فالمراد بقوله: (حل الناس كلهم) : معظمهم.

                                                                                                                              (والهدي) بإسكان الدال. وكسرها ، وتشديد الياء مع الكسر. وتخفف مع الإسكان.

                                                                                                                              وإنما قصروا ولم يحلقوا، مع أن الحلق أفضل ، لأنهم أرادوا: أن يبقى (شعر) يحلق في الحج. فلو حلقوا ، لم يبق شعر. فكان التقصير هنا أحسن ، ليحصل في النسكين: إزالة شعر. والله أعلم.

                                                                                                                              (فلما كان يوم التروية ،) وهو: " الثامن من ذي الحجة ". سبق بيانه واشتقاقه ، مرات.

                                                                                                                              وسبق أيضا: أن الأفضل عند الشافعي وموافقيه: أن من كان بمكة ، وأراد الإحرام بالحج: أحرم يوم التروية ، عملا بهذا الحديث.

                                                                                                                              وسبق بيان مذاهب العلماء فيه.

                                                                                                                              (توجهوا إلى منى ، فأهلوا بالحج.) أي: أحرموا. وفي هذا: بيان أن السنة ، أن لا يتقدم أحد إلى منى ، قبل يوم التروية..

                                                                                                                              وقد كره مالك ذلك.

                                                                                                                              وقال بعض السلف: لا بأس به.

                                                                                                                              ومذهب الشافعية: أنه خلاف السنة.

                                                                                                                              [ ص: 454 ] (وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والفجر.) فيه: بيان أشياء ;

                                                                                                                              أحدها: أن الركوب (في تلك المواطن) : أفضل من المشي. كما أنه (في جملة الطريق) : أفضل من المشي. هذا هو الصحيح في الصورتين: أن الركوب أفضل.

                                                                                                                              وقيل: المشي أفضل.

                                                                                                                              وقيل: الأفضل في جملة الحج: الركوب. إلا في مواطن المناسك ، (وهي: مكة ، ومنى ، ومزدلفة ، وعرفات) ، والتردد بينها.

                                                                                                                              والثاني: أن يصلي بمنى ، هذه الصلوات الخمس.

                                                                                                                              والثالث: أن يبيت بمنى ، هذه الليلة. وهي: ليلة التاسع من ذي الحجة.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا "المبيت" سنة. ليس بركن ، ولا واجب. فلو تركه ; فلا دم عليه بالإجماع.

                                                                                                                              (ثم مكث قليلا) أي: بعد صلاة الفجر

                                                                                                                              (حتى طلعت الشمس) .

                                                                                                                              فيه: أن السنة ، أن لا يخرجوا من منى ، حتى تطلع الشمس. وهذا متفق عليه.

                                                                                                                              [ ص: 455 ] (وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة) .

                                                                                                                              فيه: استحباب النزول بنمرة ، إذا ذهبوا من منى. لأن السنة: أن لا يدخلوا عرفات ، إلا بعد زوال الشمس. وبعد صلاتي (الظهر والعصر) جميعا.

                                                                                                                              فالسنة: أن ينزلوا بنمرة. فمن كان له (قبة) ضربها. ويغتسلون (للوقوف) : قبل الزوال.

                                                                                                                              فإذا زالت الشمس ، سار بهم الإمام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام ، وخطب بهم خطبتين خفيفتين. ويخفف (الثانية) جدا.

                                                                                                                              فإذا فرغ منها: صلى بهم (الظهر والعصر) ، جامعا بينهما.

                                                                                                                              فإذا فرغ من الصلاة ، عاد إلى الموقف.

                                                                                                                              (ونمرة) : اسم موضع ، قريب عرفات. وهي: منتهى أرض الحرم.

                                                                                                                              وكان بين الحل والحرم.

                                                                                                                              قال في (القاموس) : (نمرة) كفرحة: موضع بعرفات. أو الجبل ، الذي عليه أنصاب الحرم ، على يمينك خارجا من المأزمين ، تريد الموقف. انتهى.

                                                                                                                              وقال في (سبل السلام) : " نمرة " بفتح النون وكسر الميم ، فراء ، فتاء تأنيث: محل معروف. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 456 ] قال النووي: هذا (يعني: فتح النون وكسر الميم) أصلها. ويجوز فيها: ما يجوز في نظيرها ، وهو: (إسكان الميم) مع فتح النون ، وكسرها. وهي: موضع بجنب عرفات. وليست من عرفات.

                                                                                                                              قال: وفي هذا الحديث: جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها.

                                                                                                                              ولا خلاف في جوازه (للنازل) .

                                                                                                                              واختلفوا في جوازه (للراكب) . فمذهبنا: جوازه. وبه قال كثيرون.

                                                                                                                              وكرهه مالك ، وأحمد.

                                                                                                                              والمسألة مبسوطة ، في موضعها.

                                                                                                                              وفيه: جواز اتخاذ القباب. وجوازها من شعر.

                                                                                                                              (فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تشك قريش ; إلا أنه واقف ، عند المشعر الحرام. كما كانت "قريش" تصنع في الجاهلية.)

                                                                                                                              في هذا الاستثناء دقة. يعني: أن قريشا لم تشك ، في أنه صلى الله عليه وسلم : يخالفهم في سائر مناسك الحج ، إلا الوقوف عند المشعر الحرام ، فإنهم لم يشكوا في المخالفة. بل تحققوا: أنه يقف عنده ، لأنه من مواقف (الحمس) وأهل حرم الله.

                                                                                                                              وقال النووي: معناه: أن قريشا ، كانت في الجاهلية ، تقف بالمشعر [ ص: 457 ] الحرام. وهو (جبل) في المزدلفة ، يقال له: (قزح) .

                                                                                                                              وقيل: إن (المشعر الحرام) : كل المزدلفة.

                                                                                                                              وهو بفتح الميم على المشهور. وبه جاء القرآن. وقيل: بكسرها.

                                                                                                                              و كان سائر العرب ، يتجاوزون المزدلفة ، ويقفون بعرفات. فظنت قريش: أن النبي صلى الله عليه وسلم، يقف في المشعر الحرام ، على عادتهم ، ولا يتجاوزه.

                                                                                                                              فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى عرفات ، لأن الله تعالى: أمره بذلك ، في قوله سبحانه: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي: سائر العرب ، غير قريش.

                                                                                                                              وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة ، لأنها من الحرم. وكانوا يقولون:

                                                                                                                              نحن أهل حرم الله ، فلا نخرج منه.

                                                                                                                              (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

                                                                                                                              أي: جاوز المزدلفة ، ولم يقف بها. بل توجه إلى عرفات.

                                                                                                                              (حتى أتى عرفة) . هذا مجاز. والمراد: قارب عرفات. لأنه فسره بقوله:

                                                                                                                              (فوجد القبة ، قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها.)

                                                                                                                              وقد سبق: أن نمرة ، ليست من عرفات.

                                                                                                                              [ ص: 458 ] وتقدم: أن دخول عرفات ، قبل صلاتي الظهر والعصر جميعا:

                                                                                                                              خلاف السنة.

                                                                                                                              (حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء) تقدم ضبطها ، وبيانها ، واضحا: فيما سبق.

                                                                                                                              (فرحلت له) بتخفيف الحاء.

                                                                                                                              أي جعل عليها الرحل ، وشد على ظهرها ، ليركبها.

                                                                                                                              (فأتى بطن الوادي) . هو وادي (عرنة) بضم العين ، وفتح الراء وبعدها نون.

                                                                                                                              وليست (عرنة) من أرض عرفات ، عند الشافعي والعلماء كافة ، إلا مالكا فقال: هي من عرفات.

                                                                                                                              (فخطب الناس) .

                                                                                                                              فيه: استحباب الخطبة للإمام ، بالحجيج "يوم عرفة "، في هذا الموضع.

                                                                                                                              قال النووي: وهو "سنة " باتفاق جماهير العلماء. وخالف فيها المالكية.

                                                                                                                              ومذهب الشافعي: أن في الحج ، أربع خطب مسنونة.

                                                                                                                              إحداها: يوم السابع من ذي الحجة. يخطب عند الكعبة ، بعد صلاة الظهر.

                                                                                                                              والثانية: هذه التي ببطن عرنة ، يوم عرفات. [ ص: 459 ] والثالثة: يوم النحر.

                                                                                                                              والرابعة: يوم النفر الأول " وهو اليوم الثاني ، من أيام التشريق".

                                                                                                                              قالوا: وكل هذه الخطب أفراد ، وبعد صلاة الظهر. إلا التي يوم عرفات ، فإنها خطبتان ، وقبل الصلاة.

                                                                                                                              قال الشافعية: ويعلمهم " في كل خطبة من هذه ": ما يحتاجون إليه ، إلى الخطبة الأخرى. والله أعلم.

                                                                                                                              (وقال: " إن دماءكم وأموالكم ، حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا. في بلدكم هذا ".)

                                                                                                                              أي: متأكدة التحريم ، شديدته.

                                                                                                                              وفي هذا: دليل لضرب الأمثال ، وإلحاق النظير بالنظير ، قياسا. (ألا كل شيء من أمر الجاهلية ، تحت قدمي موضوع.)

                                                                                                                              المراد بالوضع تحت القدم: إبطاله وتركه. تقول العرب "في الأمر ، الذي لا يكاد يراجعه ويذكره ": ذلك تحت قدمي.

                                                                                                                              (ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا: دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مسترضعا في بني سعد ، فقتلته هذيل) .

                                                                                                                              قال المحققون والجمهور: واسم هذا الابن: إياس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب. [ ص: 460 ] وقيل: اسمه: " حارثة ".

                                                                                                                              وقيل: آدم. قال الدارقطني: وهو تصحيف.

                                                                                                                              وقيل: اسمه: "تمام ".

                                                                                                                              وممن سماه "آدم": الزبير بن بكار.

                                                                                                                              قال عياض: ورواه بعض رواة مسلم: (دم ربيعة بن الحارث) .

                                                                                                                              قال: وكذا رواه أبو داود.

                                                                                                                              وقيل: هو وهم. والصواب: " ابن ربيعة ". لأن ربيعة ، عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى زمن عمر بن الخطاب.

                                                                                                                              وتأوله أبو عبيد ، فقال: دم ربيعة. لأنه ولي الدم. فنسبه إليه. قالوا: وكان هذا الابن المقتول ، طفلا صغيرا ، يحبو بين البيوت.

                                                                                                                              فأصابه حجر ، في حرب " كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر" ، فمات. قاله الزبير بن بكار.

                                                                                                                              (وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ، ربانا: "ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله) .

                                                                                                                              معناه: الزائد على رأس المال ، كما قال تعالى: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم .

                                                                                                                              [ ص: 461 ] قال النووي: هذا الذي ذكرته ، إيضاح. وإلا ، فالمقصود: مفهوم من نفس لفظ الحديث ، لأن (الربا) هو الزيادة. فإذا وضع الربا ، فمعناه: وضع الزيادة.

                                                                                                                              والمراد بالوضع: الرد والإبطال.

                                                                                                                              قال: وفي هذه الجملة: إبطال أفعال الجاهلية ، وبيوعها التي لم يتصل بها قبض.

                                                                                                                              وأنه: لا قصاص في قتلها.

                                                                                                                              وأن الإمام وغيره: ممن يأمر بمعروف ، أو ينهى عن منكر ، ينبغي: أن يبدأ بنفسه وأهله ، فهو أقرب إلى قبول قوله ، وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام.

                                                                                                                              (فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمان الله) . هكذا هو في كثير من الأصول.

                                                                                                                              وفي بعضها: (بأمانة الله) . فيه: الحث على: مراعاة حق النساء.

                                                                                                                              والوصية بهن. ومعاشرتهن بالمعروف.

                                                                                                                              وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة ، في الوصية به ، وبيان حقوقهن ، والتحذير من التقصير في ذلك.

                                                                                                                              قال النووي: وقد جمعتها ، أو معظمها في: (رياض الصالحين) .

                                                                                                                              (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) .

                                                                                                                              [ ص: 462 ] و قيل: معناه قوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .

                                                                                                                              وقيل: المراد: كلمة التوحيد. وهي: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم.

                                                                                                                              وقيل: المراد بإباحة الله. والكلمة: قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء .

                                                                                                                              قال النووي: وهذا الثالث ، هو الصحيح.

                                                                                                                              وبالأول ، قال الخطابي والهروي وغيرهما.

                                                                                                                              وقيل: المراد بالكلمة: الإيجاب ، والقبول. ومعناه على هذا: الكلمة التي أمر الله تعالى بها. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: هذا الأخير ، هو الألصق بالمقام ، والأوفق بالمرام.

                                                                                                                              ولا مانع أيضا ، من إرادة الجميع. لأنه صلى الله عليه وسلم، أوتي جوامع الكلم. وهذا منها. والله أعلم.

                                                                                                                              (ولكم عليهن: أن لا يوطئن فرشكم ، أحدا تكرهونه) .

                                                                                                                              قال المازري: قيل: المراد بذلك ، أن لا يستخلين بالرجال ، ولم يرد زناها. لأن ذلك ، يوجب جلدها ، ولأن ذلك حرام ، مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه.

                                                                                                                              وقال عياض: كانت عادة العرب ، حديث الرجال مع النساء.

                                                                                                                              [ ص: 463 ] ولم يكن ذلك ، عيبا ولا ريبة عندهم. فلما نزلت آية الحجاب ، نهوا عن ذلك. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: والمختار أن معناه: أن لا تأذن لأحد تكرهونه ، في دخول بيوتكم ، والجلوس في منازلكم ، سواء كان المأذون له: رجلا أجنبيا ، أو امرأة ، أو أحدا من محارم الزوجة. فالنهي يتناول جميع ذلك.

                                                                                                                              وهذا حكم المسألة عند الفقهاء: أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ، أو امرأة ، ولا محرم ، ولا غيره ، في دخول منزل الزوج. إلا من علمت وظنت: أن الزوج لا يكرهه. لأن الأصل: تحريم دخول منزل الإنسان ، حتى يوجد الإذن في ذلك منه ، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك ، أو عرف رضاه: باطراد العرف لذلك ونحوه.

                                                                                                                              ومتى حصل الشك في الرضا ، ولم يترجح شيء ، ولا وجدت قرينة: لا يحل الدخول ، ولا الإذن. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: هذا المعنى الأخير ، هو الصحيح المختار ، الموافق بظاهر الحديث.

                                                                                                                              وكم من فتنة ، تولدت من عدم العمل بهذا الحكم ، وترك الاعتناء به ، وصارت ذريعة إلى: ضياع الضيعة ، والعرض ، والعرض. بل انجرت إلى سفك الدماء. ولا حول ولا قوة إلا بالله. [ ص: 464 ] وبهذه الوسيلة الشيطانية: غلب غالب النساء على الرجال ، وآل فساد البيت وأهله إلى ما آل.

                                                                                                                              (فإن فعلن ذلك ، فاضربوهن ضربا غير مبرح) . وهو الضرب الشديد الشاق.

                                                                                                                              قال النووي: معناه: اضربوهن ضربا ، ليس بشديد ولا شاق.

                                                                                                                              (والبرح) المشقة. (والمبرح) بضم الميم ، وسكون الباء ، وكسر الراء.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب. فإن ضربها: الضرب المأذون فيه ، فماتت منه: وجبت ديتها على عاقلة الضارب. ووجبت الكفارة في ماله.

                                                                                                                              (ولهن عليكم: رزقهن وكسوتهن بالمعروف) .

                                                                                                                              فيه: وجوب نفقة الزوجة وكسوتها. وذلك ثابت بالإجماع.

                                                                                                                              قاله النووي.

                                                                                                                              وتفصيل هذا المجمل ، وتبيين هذا المشكل: يحتاج إلى بسط بسيط.

                                                                                                                              وقد حققته في كتاب: (دليل الطالب ، على أرجح المطالب) .

                                                                                                                              وفي تقييد هذا الكلام: (بالمعروف) ، فوائد جمة. ذكرناها هنالك.



                                                                                                                              [ ص: 465 ] (وقد تركت فيكم ، ما لن تضلوا بعده ، إن اعتصمتم به: كتاب الله) .

                                                                                                                              اقتصر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، على ذكر القرآن. وأحال عدم ضلالة الأمة ، على الاعتصام به. وهذا لا شك فيه.

                                                                                                                              قال ابن عباس: من اقتدى بكتاب الله ، لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة. ثم تلا هذه الآية: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . رواه رزين.

                                                                                                                              وفي حديث آخر: عن مالك بن أنس مرسلا: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين ، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ".) . رواه في: (الموطإ) .

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) يرفعه: "نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال. فأحلوا الحلال ، وحرموا الحرام ، واعملوا بالمحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال ". قال في (المشكاة) : هذا لفظ (المصابيح) .

                                                                                                                              وروى البيهقي في (شعب الإيمان) بلفظ: (فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم) .

                                                                                                                              وعن ابن مسعود مرفوعا: " أنزل القرآن ، على سبعة أحرف ، لكل آية منها: ظهر وبطن. ولكل حد: مطلع) رواه في: (شرح السنة) [ ص: 466 ] وعن ابن عمر يرفعه: (العلم ثلاثة: آية محكمة. أو سنة قائمة. أو فريضة عادلة. وما كان سوى ذلك ، فهو فضل) . أي: زيادة ، لا ضرورة فيه ، ولا حاجة إليه. رواه أبو داود ، وابن ماجه وقال:

                                                                                                                              "علموا الفرائض ، والقرآن ، وعلموا الناس ، فإني مقبوض " رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

                                                                                                                              وعن زيد بن أرقم يرفعه: " أنا تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله. فيه: الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ".

                                                                                                                              فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: " وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي".

                                                                                                                              وفي رواية: " كتاب الله: هو حبل الله. من اتبعه كان على الهدى. ومن تركه كان على الضلالة ". رواه مسلم وغيره. واللفظ له.

                                                                                                                              ورواه الترمذي عنه أيضا ، بلفظ:

                                                                                                                              "إني تارك فيكم ، ما إن تمسكتم به ، لن تضلوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر: (كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض. وعترتي: أهل بيتي) ولن يتفرقا ، حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟".

                                                                                                                              وعنده ، عن جابر: (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول: " يا أيها الناس ! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي".

                                                                                                                              [ ص: 467 ] وفي الباب: أحاديث كثيرة ، صحيحة حسنة ، ليس هذا موضع بسطها.

                                                                                                                              وفيما ذكرناه ههنا: دلالة واضحة ، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصى أمته في آخر عمره: بالاعتصام بكتاب الله ، وسنته المطهرة ، وحسن الخلافة في عترته ، الموجودة في عصره صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                              فتحصل: أن أصول شرائع الدين ، وشعائر الإسلام: هي هذا الكتاب وهذه السنة ، لا غير.

                                                                                                                              وبهذا ، نزل القرآن. كما قال الرحمن في الفرقان: ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) وهي السنة. على ما فسرها المحققون ، من أهل العلم.

                                                                                                                              فالسنة ، هي تلو القرآن ، وصنوه ،: في الاتباع ، والتمسك ، والاعتصام بها. وقد ورد بذلك أحاديث. منها ;

                                                                                                                              حديث أبي رافع يرفعه: "لا ألفين أحدكم ، متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري ، مما أمرت أو نهيت عنه ، يقول: لا أدري. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي في (دلائل النبوة) .

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: إشارة إلى الخوارج ، الذين يدعون العمل بالكتاب ;

                                                                                                                              (ويتركون التمسك بالسنة ، حيث قالوا:) إن الحكم إلا لله. [ ص: 468 ] وفي حديث المقدام بن معديكرب برفعه:

                                                                                                                              "ألا إني أوتيت القرآن ، ومثله معه. (ألا يوشك رجل شبعان على أريكته) يقول: عليكم بهذا القرآن. فما وجدتم فيه من حلال ، فأحلوه. وما وجدتم فيه من حرام ، فحرموه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله ". رواه أبو داود ، وابن ماجه. وروى الدارمي نحوه.

                                                                                                                              وعن العرباض بن سارية ، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أيحسب أحدكم متكئا على أريكته ، يظن : أن الله لم يحرم شيئا ، إلا ما في هذا القرآن ؟ ألا وإني والله ! قد أمرت ، ووعظت ، ونهيت عن أشياء. إنها لمثل القرآن أو أكثر " رواه أبو داود. وفي سنده: (أشعث بن شعبة المصيصي) وفيه كلام.

                                                                                                                              وهذه الأحاديث ، دلت على وجوب العمل: بالقرآن ، والحديث. وأفادت أن أصل الدين: هذان الأمران ، لا ثالث لهما.

                                                                                                                              ومن هنا تبين: أن إلحاق (الإجماع ، والقياس) بهذين. في كونهما أصلا ثالثا ، ورابعا: تسامح من أهل الرأي ، ومن وافقهم من جمهور الفقهاء.

                                                                                                                              وقد شحنوا بذلك ، كتب أصولهم ، غافلين (عما هو الأصول ، فتولد) من هذا الداء العضال: تفاريع وتخاريج ، لا تبتني على أصل صحيح ، ولا أس صريح. وهي طويلة عريضة ، أحاطت (بجوانب العالم، [ ص: 469 ] وأفضت إلى) ترك التمسك بكتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إلا شرذمة قليلة ، شاذة فاذة: من نزاع القبائل ، في الآفاق الشاسعة ، والأقطار البعيدة.

                                                                                                                              وهم قذى في عيون المقلدين ، وشجى في حلوق المبتدعين ، ولظى في قلوب المقصرين.

                                                                                                                              وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وهو الصادق المصدوق) ، عن حال الفريقين ، في أحاديث كثيرة ;

                                                                                                                              منها: حديث ابن مسعود ، عند مسلم في صحيحه: (ما من نبي ، بعثه الله في أمته قبلي ، إلا كان له في أمته: حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف (من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون) الحديث.

                                                                                                                              فنبه بذكر الأمم السالفة ، على كون هذه الخلوف ، في هذه الأمة.

                                                                                                                              وقال في آخر هذا الحديث: (فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه ، فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان ، حبة خردل) .

                                                                                                                              وقد وقع "ولله الحمد" ، كما أخبر. وجاهد هؤلاء الخلوف: عصابة مباركة ، من أهل الحديث قديما وحديثا ، باليد واللسان والقلب والجنان. [ ص: 470 ] (هذه مؤلفات شيخ الإسلام) : ابن تيمية ، وتلميذه: الإمام ابن القيم ، وأضرابهما ممن تأخر (في قطر اليمن وما حوله) إلى آخرهم ، من بعض بلاد الهند. انظر فيها ، نظر ممعن متقن: يظهر عليك حال تلك المجاهدة ، والزلازل والقلاقل. وتعلم أن الفتح في ذلك كله ، كان للمتبعين. كما قال سبحانه وتعالى: ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) .

                                                                                                                              (وقد أخبر خاتم الرسل ، وسراج الكل ، صلى الله عليه وسلم: بظهور هؤلاء الكرام ، إلى قيام الساعة ، حيث قال:) .

                                                                                                                              "لا يزال من أمتي ، أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك." رواه البخاري ومسلم ، عن معاوية. والحديث متفق عليه.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: " ولا يزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرهم من خذلهم " رواه الترمذي ، عن معاوية.

                                                                                                                              وقال: هذا حديث حسن صحيح.

                                                                                                                              قال ابن المديني: هم أصحاب الحديث.

                                                                                                                              وهذه الأحاديث ، إعلام من إعلامات النبوة. وفيها بشارة عظمى ، لأهل الحديث ، وللعاملين به ، والمتمسكين بالحق. وتسلية كبرى [ ص: 471 ] لخواطر المتبعين ، المنكسرة قلوبهم: برؤية أهل الباطل ، (الزائغين عن سنة سيد المرسلين) .

                                                                                                                              هذا ، وحديث جعفر الصادق (رضي الله عنه) ، عن أبيه ، عن جده ، عليهم السلام: كاشف عن حال أول هذه الأمة ، وأوسطها ، وآخرها. وفيه: ما تشتهي الأنفس ، وتلذ الأعين. ولفظه:

                                                                                                                              قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا. أبشروا. إنما مثل أمتي: مثل الغيث ، لا يدرى آخره خير أم أوله. أو: كحديقة ، أطعم منها فوج عاما. ثم أطعم منها فوج عاما. لعل آخرها فوجا ; أن يكون أعرضها عرضا ، وأعمقها عمقا ، وأحسنها حسنا. كيف تهلك أمة أنا أولها. والمهدي وسطها. والمسيح آخرها ؟ ولكن بين ذلك فيح أعوج) ليسوا مني ، ولا أنا منهم ". رواه رزين.

                                                                                                                              وهذا الفيح الأعوج ، هم المعرضون عن اقتداء الكتاب ، واتباع السنة المقبلون على الرأي ، والأسيرون في التقليد ، الجامدون على البدع الحسنة في اصطلاحهم. المصرون على المحدثات المعروفة عندهم. المنكرة عند أهل العلم. التاركون لفقه السنة. العاطلون عن درس الحديث ودواوينه. وهذا لا يخفى ، على من له أدنى ممارسة بعلوم الشريعة الحقة ; [ ص: 472 ] ومعرفة بأيسر مداركها ، فضلا عمن عبر على كلها وجلها. ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) .

                                                                                                                              ولم يكن هذا الموضع ، يليق بهذا القدر من الكلام. ولكن (الشيء يذكر بالشيء) ، فجرى القلم بهذا الكلام في هذا المقام. والعذر يقبل عند الناس: من أهل الفضل والإكرام. والسلام.

                                                                                                                              (" وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟". قالوا: نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ، ونصحت. فقال بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم ! اشهد. اللهم! اشهد. " ثلاث مرات) .

                                                                                                                              قال النووي: هكذا ضبطناه: (ينكتها) بعد الكاف تاء.

                                                                                                                              قال عياض: وهو بعيد المعنى. قال: قيل: صوابه: (ينكبها) بباء موحدة.

                                                                                                                              قال: ورويناه في (سنن أبي داود) : بالتاء ، من طريق ابن الأعرابي.

                                                                                                                              وبالموحدة ، من طريق أبي بكر التمار. ومعناه: يقلبها ويرددها إلى الناس ، مشيرا إليهم.

                                                                                                                              ومنه: (نكب كنانته) ، إذا قلبها.

                                                                                                                              هذا كلام القاضي. ولم يزد عليه النووي شيئا.

                                                                                                                              وأقول: في هذا الحديث: دليل صحيح ، صريح ، واضح ، محكم ; [ ص: 473 ] معول عليه ، على أن الله " سبحانه وتعالى " فوق السماء. فوق العالم. بائن من خلقه: باستوائه على عرشه العظيم.

                                                                                                                              وأن الإشارة إليه " سبحانه " بالإصبع: سائغ جائز ، لا مرية فيه.

                                                                                                                              وكانت هذه الإشارة "في هذا الموضع" ، من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء: في تلك الحجة التي ودع فيها الخلائق ، واجتمع فيها بشر كثير ، زيادة على مائة ألف وأربع وعشرين ألفا كما قيل ، وفيهم القروي والبدوي ، والصغير والكبير ، والجاهل والسفيه ، والعاقل والنبيه.

                                                                                                                              فلم يمنعه صلى الله عليه وسلم مانع: من رفع المسبحة إلى السماء ، مشيرا إلى الله العلي العظيم..

                                                                                                                              والحديث له طرق وألفاظ.

                                                                                                                              وفي الباب: أحاديث كثيرة صحيحة ، مذكورة في كتب أصول الدين ، لها دلالة على: مسألة الاستواء ، وغيرها من صفاته العليا ، التي لا يجحدها إلا الكافرون ، والمارقون من الدين.

                                                                                                                              فما لهذه المسألة ، وغيرها من مسائل الصفات: التي حكم جميعها حكم صفة واحدة ، (لا شطط ولا وكس. والمتكلمون الذين شمروا عن ساق الجد ، لإنكار ما ورد به الكتاب والسنة ، ونطق به الله ورسوله من الأسماء الحسنى ، والصفات العليا. وأولوها على) غير تأويلها الثابت ، الذي درج عليه السلف الصلحاء. وأتوا في بيان مبانيها [ ص: 474 ] ومعانيها ، بما تقشعر منه الجلود ، ويفضي بقائله إلى تعطيل الرب المعبود ، عن الأمر المقصود. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

                                                                                                                              وحيث حققنا (مسألة الصفات ، في مؤلفات عديدة لنا) استقلالا وتضمنا; رأينا: ضرب الكشح عن بحثها في هذا المقام مناسبا.

                                                                                                                              [ (ثم أذن. ثم أقام فصلى الظهر. ثم أقام فصلى العصر. ولم يصل بينهما شيئا) .

                                                                                                                              فيه: أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك ، في ذلك اليوم.

                                                                                                                              قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم ، على أن الإمام ، يجمع بين الظهر والعصر بعرفة. وكذلك من صلى مع الإمام. انتهى.

                                                                                                                              وقال النووي: وقد أجمعت الأمة عليه. واختلفوا في سببه ، فقيل: بسبب النسك. وهو مذهب أبي حنيفة ، وبعض أصحاب الشافعي. وقال أكثر أصحابه: هو بسبب السفر. فمن كان حاضرا ، أو مسافرا دون مرحلتين ، كأهل مكة: لم يجز له الجمع. كما لا يجوز له القصر (انتهى) . يعني: إلحاقا له بالقصر.

                                                                                                                              قال ابن المنذر: وليس بصحيح. فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بجمع ، ومعه من حضره من المكيين وغيرهم ، ولم يأمرهم بترك الجمع ، كما أمرهم [ ص: 475 ] بترك القصر ، فقال: (" أتموا فإنا سفر ". ولو حرم الجمع ، لبينه لهم. إذ لا يجوز) تأخير البيان ، عن وقت الحاجة.

                                                                                                                              قال: ولم يبلغنا عن أحد " من المتقدمين ": خلاف ، في الجمع بعرفة والمزدلفة. بل وافق عليه ، من لا يرى الجمع في غيره. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: وفيه: أن الجامع بين الصلاتين ، يصلي الأولى أولا. وأنه: (يؤذن للأولى ، ويقيم لكل واحدة منهما.

                                                                                                                              وأنه: لا يفرق بينهما.

                                                                                                                              قال: وهذا كله ، متفق عليه عندنا. انتهى.

                                                                                                                              (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته " القصواء "، إلى الصخرات. وجعل حبل المشاة ، بين يديه) .

                                                                                                                              روي (حبل) بالحاء وإسكان الباء. (وجبل) بالجيم وفتح الباء. قال (عياض: الأول أشبه بالحديث.

                                                                                                                              وحبل) المشاة: مجتمعهم. وحبل الرمل: ما طال منه وضخم.

                                                                                                                              وأما بالجيم فمعناه: طريقهم ، وحيث تسلك الرجالة.

                                                                                                                              (واستقبل القبلة. فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص) . هكذا هو في جميع النسخ. وكذا [ ص: 476 ] نقله (عياض عن جميعها. قال: قيل: لعل صوابه) : حين غاب القرص.

                                                                                                                              قال النووي: ويحتمل أن الكلام على ظاهره. ويكون قوله: (حتى غاب القرص) ، (بيانا لقوله: غربت الشمس وذهبت الصفرة) فإن هذه ، تطلق مجازا على مغيب معظم القرص. فأزال ذلك الاحتمال بقوله: (حتى غاب القرص) . والله أعلم.

                                                                                                                              (قال النووي: في هذا الفصل مسائل) ، وآداب للوقوف.

                                                                                                                              منها: أنه إذا فرغ من الصلاتين ، عجل الذهاب إلى الموقف.

                                                                                                                              ومنها: أن الوقوف راكبا أفضل. وفيه خلاف بين أهل العلم.

                                                                                                                              وللشافعية ثلاثة أقوال ، أصحها: ما ذكرنا. والثاني: غير الراكب أفضل. والثالث: هما سواء.

                                                                                                                              ومنها: استحباب الوقوف ، عند الصخرات المذكورات. وهي مفترشات في أسفل جبل الرحمة. وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. فهذا هو الموقف المستحب.

                                                                                                                              قال النووي: وأما ما اشتهر بين العوام ، من الاعتناء بصعود الجبل. وتوهمهم: أنه لا يصح الوقوف إلا فيه: فغلط. بل الصواب: جواز الوقوف ، في كل جزء ، من أرض عرفات. وأن الفضيلة ، في موقف [ ص: 477 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند الصخرات. فإن عجز ، فليقرب منه بحسب الإمكان.

                                                                                                                              وفي الحديث: " عرفة كلها موقف". انتهى.

                                                                                                                              وأقول: تلك الفضيلة ، لا تنافي ما قاله صلى الله عليه وسلم : " إن عرفة كلها (موقف) . فإن تتبع آثاره ، والوقوف في مواقفه ، في حج وغيره: هو من أعظم مواطن التبرك ، التي تكون ذريعة إلى الخير. ووصلة إلى الرشد.

                                                                                                                              وكان الصحابة "رضي الله عنهم" ، يبالغون في مثل هذا ، ويتنافسون فيه. حتى كان " ابن عمر " ، إذا وصل إلى السباطة ، التي بال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما: فعل كفعله ، وبال قائما. مع ما في ذلك: من التعرض لمخالفة النهي ، عن أن يبول الرجل قائما. فكيف ما لا يخالفه شيء.

                                                                                                                              ومنها: استحباب استقبال القبلة ، في الوقوف.

                                                                                                                              ومنها: أنه ينبغي ، أن يبقى في الوقوف ، حتى تغرب الشمس ، (ويتحقق كمال غروبها ، ثم يفيض إلى مزدلفة. فلو أفاض قبل) غروب الشمس ، صح وقوفه وحجه.

                                                                                                                              قال النووي: ويجبر ذلك بدم.

                                                                                                                              [ ص: 478 ] وهل الدم واجب أو مستحب ؟ فيه (قولان للشافعي. أصحهما: أنه سنة. والثاني:) واجب.

                                                                                                                              وهما مبنيان على: أن الجمع بين الليل والنهار ، واجب على من وقف بالنهار أم لا ؟ وفيه قولان ، أصحهما: سنة. والثاني: واجب.

                                                                                                                              وأما وقت الوقوف ; فهو ما بين زوال الشمس " يوم عرفة " ، وطلوع الفجر الثاني "يوم النحر".

                                                                                                                              فمن حصل بعرفات ، في جزء من هذا الزمان: صح وقوفه. ومن فاته ذلك: فاته الحج.

                                                                                                                              قال: هذا مذهب الشافعي ، وجماهير العلماء.

                                                                                                                              وقال مالك: لا يصح الوقوف في النهار منفردا. بل لا بد من الليل وحده. فإن اقتصر على الليل كفاه. وإن اقتصر على النهار لم يصح وقوفه.

                                                                                                                              وقال أحمد: يدخل وقت الوقوف ، في ما بين طلوع الفجر يوم عرفة ، وطلوعه يوم العيد.

                                                                                                                              وأجمعوا على: أن أصل الوقوف ركن. لا يصح الحج إلا به. انتهى.

                                                                                                                              ويؤيده حديث عروة بن مضرس [وفيه: (من شهد صلاتنا هذه ، [ ص: 479 ] ووقف قبل] ذلك بعرفة ، ليلا ونهارا: فقد تم حجه ، وقضى تفثه) .

                                                                                                                              رواه الخمسة ، وصححه الترمذي.

                                                                                                                              قال في المنتقى: وهو حجة [ في أن نهار عرفة كله ، وقت للوقوف ] انتهى.

                                                                                                                              قال في شرحه: وأجاب الجمهور ، بأن المراد بالنهار: ما بعد الزوال.

                                                                                                                              بدليل: أنه صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين بعده ، لم يقفوا إلا بعد الزوال.

                                                                                                                              ولم ينقل عن أحد: أنه وقف قبله. فكأنهم جعلوا هذا الفعل ، مقيدا لذلك المطلق. ولا يخفى ما فيه. انتهى.



                                                                                                                              (وأردف أسامة) بن زيد بن حارثة (خلفه. ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

                                                                                                                              فيه: جواز الإرداف ، إذا كانت الدابة مطيقة. وقد تظاهرت به الأحاديث.

                                                                                                                              (وقد شنق) أي: ضم وضيق. وهو بتخفيف النون. [(للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله) ].

                                                                                                                              قال الجوهري: قال أبو عبيد: (المورك ، والموركة) بفتح الميم وكسر الراء: هو الموضع ، الذي يثني الراكب رجله عليه ، قدام [واسطة الرحل ، إذا مل من الركوب ].

                                                                                                                              [ ص: 480 ] وضبطه "القاضي" بفتح الراء. قال: وهو قطعة أدم ، يتورك عليه الراكب ، تجعل في مقدم الرحل. شبه المخدة الصغيرة.

                                                                                                                              وفي هذا: استحباب الرفق " في السير " من الراكب: بالمشاة ، وبأصحاب الدواب الضعيفة..

                                                                                                                              (ويقول بيده اليمنى: أيها الناس ! السكينة السكينة) مرتين. منصوبا.

                                                                                                                              أي: الزموا السكينة. وهي الرفق والطمأنينة.

                                                                                                                              ففيه: أن السكينة " في الدفع من عرفات ": سنة. فإذا وجد فرجة يسرع. كما ثبت في الحديث الآخر.

                                                                                                                              (كلما أتى حبلا من الحبال ، أرخى لها قليلا) . الحبال هنا " بالحاء المكسورة ": جمع (حبل) . وهو التل اللطيف ، من الرمل الضخم.

                                                                                                                              (حتى تصعد) بفتح التاء وضمها.

                                                                                                                              [يقال: صعد في الحبل ، وأصعد ]. ومنه قوله تعالى: إذ تصعدون .

                                                                                                                              (حتى أتى المزدلفة) : موضع معروف.

                                                                                                                              سميت بذلك: من [التزلف والازدلاف: وهو التقرب]. لأن [ ص: 481 ] الحجاج ، إذا أفاضوا من عرفات ، ازدلفوا إليها. أي: مضوا إليها ، وتقربوا منها.

                                                                                                                              وقيل: سميت بذلك ، لمجيء الناس إليها في زلف من الليل. أي: ساعات.

                                                                                                                              وتسمى: (جمعا) بفتح الجيم وإسكان الميم. سميت بذلك: لاجتماع الناس فيها.

                                                                                                                              قال النووي: إن المزدلفة كلها من الحرم. قال الأزرقي في: (تاريخ مكة) ، والماوردي وأصحابنا في: (كتب المذهب) ، وغيرهم: حد مزدلفة: ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر. وليس الحدان منها. ويدخل في المزدلفة: جميع تلك الشعاب ، والحبال الداخلة في الحد المذكور. انتهى.

                                                                                                                              (فصلى بها المغرب ، والعشاء) .

                                                                                                                              قال النووي: فيه فوائد: أن السنة للدافع من عرفات: أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء. ويكون هذا التأخير بنية الجمع. ثم يجمع بينهما في المزدلفة ، في وقت العشاء. وهذا مجمع عليه. لكن مذهب أبي حنيفة ، وطائفة: أنه يجمع بسبب النسك. ويجوز: لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم.

                                                                                                                              قال: والصحيح: أنه جمع بسبب السفر ، [ فلا يجوز إلا لمسافر ، يبلغ به مسافة القصر]. وهو مرحلتان. [ ص: 482 ] وللشافعي قول ضعيف: أنه يجوز الجمع في كل سفر، وإن كان قصيرا.

                                                                                                                              قال: وقال بعض أصحابنا: هذا الجمع ، بسبب النسك. كما قال أبو حنيفة. انتهى.

                                                                                                                              قال في (الفتح) : هو إجماع. لكنه عند الشافعية وطائفة: بسبب السفر. انتهى.

                                                                                                                              وقد قدمنا الجواب عن هذا.

                                                                                                                              قال النووي: ولو جمع بينهما في وقت المغرب ، في أرض عرفات ، أو في الطريق ، أو في موضع آخر ، أو صلى كل واحدة في وقتها: جاز جميع ذلك. لكنه خلاف الأفضل.

                                                                                                                              قال: هذا مذهبنا. وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين. وقاله الأوزاعي ، وأبو يوسف ، وأشهب ، وفقهاء أصحاب الحديث.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة ، وغيره من الكوفيين: يشترط أن يصليهما بالمزدلفة.

                                                                                                                              ولا يجوز قبلها.

                                                                                                                              وقال مالك: لا يجوز أن يصليهما قبل [ المزدلفة ، إلا من به أو بدابته عذر]، فله أن يصليهما قبل المزدلفة ، بشرط كونه: بعد مغيب الشمس.

                                                                                                                              (بأذان واحد وإقامتين) . [ ص: 483 ] وفيه: أن يصلي الصلاتين ، في وقت الثانية: بأذان [ للأولى وإقامتين: لكل واحدة إقامة.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا هو الصحيح عند أصحابنا. وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، والماجشون ، والطحاوي الحنفي.].

                                                                                                                              وقال مالك: يؤذن ويقيم للأولى ، ويؤذن ويقيم أيضا للثانية. وهو محكي عن عمر ، وابن مسعود.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف: أذان واحد، وإقامة واحدة.

                                                                                                                              وللشافعي وأحمد قول: أنه يصلي كل واحدة بإقامتها ، بلا أذان.

                                                                                                                              وهو محكي عن القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بن عمر.

                                                                                                                              وقال الثوري (رحمه الله) : يصليهما جميعا ، بإقامة واحدة. وهو يحكى أيضا عن ابن عمر. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: هذا كله ، رأي واجتهاد من هؤلاء الكرام. ولا حجة في ذلك.

                                                                                                                              والذي يترجح هنا: ما ورد به هذا الحديث الصحيح.

                                                                                                                              (ولم يسبح بينهما شيئا) أي: لم يتنفل.

                                                                                                                              وقد نقل ابن المنذر: الإجماع ، على ترك التطوع بين الصلاتين ، بالمزدلفة.

                                                                                                                              قال: لأنهم اتفقوا على أن السنة: الجمع بين المغرب والعشاء ، بالمزدلفة. ومن تنفل بينهما ، لم يصح أنه جمع. انتهى. [ ص: 484 ] قال في (شرح المنتقى) : ويشكل على ذلك: ما في البخاري عن ابن مسعود ;

                                                                                                                              (أنه صلى بعد المغرب: ركعتين ، ثم دعا بعشائه فتعشى ، ثم صلى العشاء) . انتهى.

                                                                                                                              وأقول: لا حجة في هذا ، فإنه موقوف.

                                                                                                                              وقال النووي: (لم يصل بينهما نافلة) . والنافلة تسمى: (سبحة) ، لاشتمالها على التسبيح. ففيه: الموالاة بين الصلاتين المجموعتين. ولا خلاف في هذا. لكن اختلفوا ; هل هو شرط للجمع أم لا؟

                                                                                                                              والصحيح عندنا: أنه ليس بشرط. بل هو سنة مستحبة.

                                                                                                                              وقال بعض أصحابنا: هو شرط.

                                                                                                                              [أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى، فالموالاة] شرط بلا خلاف.

                                                                                                                              (ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى طلع الفجر. وصلى الفجر ، حين تبين له الصبح: بأذان وإقامة) .

                                                                                                                              فيه مسائل:

                                                                                                                              أحدها: أن المبيت بمزدلفة "ليلة النحر ، بعد الدفع من عرفات": نسك.

                                                                                                                              [ ص: 485 ] قال النووي: وهذا مجمع عليه. لكن اختلف العلماء: هل هو واجب ; أم ركن ، أم سنة ؟.

                                                                                                                              والصحيح أنه: واجب. لو تركه أثم ، وصح حجه. ولزمه دم.

                                                                                                                              والثاني: أنه سنة ، لا إثم في تركه. ولا يجب فيه دم. ولكن يستحب.

                                                                                                                              وقال جماعة: هو ركن ، لا يصح الحج إلا به. كالوقوف بعرفات.

                                                                                                                              قال: وقاله خمسة من أئمة التابعين ، وهم: [ علقمة ، والشعبي ، والأسود ، والنخعي ، والحسن البصري. والسنة: أن يبقى]) بالمزدلفة ، حتى يصلي بها الصبح: إلا الضعفة ، فالسنة لهم: الدفع قبل الفجر.

                                                                                                                              وفي [ أقل المجزئ من هذا المبيت: ثلاثة أقوال;

                                                                                                                              الصحيح: ساعة في النصف الثاني] من الليل.

                                                                                                                              والثاني: ساعة في النصف الثاني ، أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس.

                                                                                                                              والثالث: معظم الليل.

                                                                                                                              المسألة [الثانية: أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح] في هذا الموضع. ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم ، أكثر من تأكده في سائر السنة ، [ ص: 486 ] للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . [ولأن وظائف هذا اليوم] كثيرة ، فسن المبالغة: بالتبكير بالصبح ، ليتسع الوقت للوظائف.

                                                                                                                              الثالثة: يسن الأذان والإقامة ، لهذه الصلاة. وكذلك غيرها: من صلوات المسافر. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة: بالأذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر ، كما في الحضر. والله أعلم.

                                                                                                                              (ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام) .

                                                                                                                              فيه: أن السنة: الركوب ، وأنه أفضل من المشي.

                                                                                                                              والمراد بالمشعر الحرام هنا: (قزح) .

                                                                                                                              وهذا الحديث: حجة الفقهاء ، في أن المشعر الحرام هو (قزح) .

                                                                                                                              وقال جماهير المفسرين ، وأهل السير والحديث: المشعر الحرام: جميع المزدلفة.

                                                                                                                              (والمشعر) بفتح الميم. هذا هو الصحيح. وبه جاء القرآن. وتظاهرت به روايات الحديث. ويقال أيضا بكسر الميم.

                                                                                                                              (فاستقبل القبلة) يعني: الكعبة. (فدعاه ، وكبره ، وهلله ، ووحده) .

                                                                                                                              فيه: أن الوقوف على (قزح) : من مناسك الحج. وهذا لا خلاف فيه.

                                                                                                                              لكن اختلفوا في وقت الدفع منه. وسيأتي.

                                                                                                                              [ ص: 487 ] قال في (شرح المنتقى) : فيه: استحباب استقبال القبلة بالمشعر الحرام ، والدعاء ، والتكبير ، والتهليل ، والتوحيد ، والوقوف به إلى الإسفار ، والدفع منه قبل طلوع الشمس.

                                                                                                                              وقد ذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن من لم يقف بالمشعر ، فقد ضيع نسكا ، وعليه دم.

                                                                                                                              وقيل: لا دم عليه ، وإنما هو منزل ، من شاء نزل به ، ومن شاء لم ينزل به.

                                                                                                                              وذهب ابن خزيمة وغيره: إلى أن الوقوف به: ركن، لا يتم الحج إلا به.

                                                                                                                              وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه. وروي عن النخعي.

                                                                                                                              واحتج الطحاوي: بأن الله عز وجل ، لم يذكر الوقوف. وإنما قال:

                                                                                                                              فاذكروا الله عند المشعر الحرام . انتهى حاصله.

                                                                                                                              وأقول: قوله في هذا الحديث: (فلم يزل واقفا) ، بيان لمجمل القرآن. فيكون الوقوف واجبا ، لاسيما مع قوله: (حتى أسفر جدا) . الضمير في (أسفر) : يعود إلى الفجر المذكور أولا. (وجدا) . بكسر الجيم. أي: إسفارا بليغا.

                                                                                                                              وهذا يرد على ما ذهب إليه مالك ، من أن يدفع قبل الإسفار.

                                                                                                                              ([ فدفع قبل أن تطلع] الشمس) .

                                                                                                                              [ ص: 488 ] وفيه: أن وقت الدفع منه ، ما في هذا الحديث. وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، [ وجماهير العلماء.

                                                                                                                              قالوا: لا يزال واقفا فيه] ، يدعو ويذكر ، حتى يسفر الصبح جدا ، كما في هذا الحديث.

                                                                                                                              وتقدم مذهب مالك في ذلك ، وهو محجوج.

                                                                                                                              قال في (السيل الجرار) : إتيانه صلى الله عليه وسلم للمشعر الحرام " بعد صلاة الفجر ": نسك. وقد أيد كونه نسكا: الأمر القرآني" بالدعاء عنده ، حيث قال تعالى: فاذكروا الله عند المشعر الحرام .

                                                                                                                              قال: وحديث جابر ، الثابت في الصحيحين ، يظهر: أنه لا يكفي مجرد المرور بالمشعر ، بل لا بد من الوقوف فيه ، كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وهذا النسك ، قد ضيعه الناس منذ أيام. كأنه: شريعة نسخت ، وملة طمست ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

                                                                                                                              (وأردف الفضل بن عباس، " وكان رجلا حسن الشعر ، أبيض وسيما ") .

                                                                                                                              أي: حسنا جميلا.

                                                                                                                              (فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرت به ظعن يجرين) . بضم الظاء والعين.

                                                                                                                              ويجوز إسكان العين: جمع (ظعينة) . كسفينة وسفن. [ ص: 489 ] وأصل الظعينة: البعير الذي عليه امرأة. ثم تسمى به المرأة مجازا ، لملابستها البعير. كما أن " الراوية " أصلها: الجمل الذي يحمل الماء ، ثم تسمى به "القربة " لما ذكرناه.

                                                                                                                              و (يجرين) بفتح الياء.

                                                                                                                              (فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر. فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، يصرف وجهه من الشق الآخر، ينظر) .

                                                                                                                              فيه: الحث على: غض البصر عن الأجنبيات ، وغضهن عن الرجال الأجانب.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا معنى قوله: (وكان أبيض وسيما ، حسن الشعر) .

                                                                                                                              يعني: أنه بصفة من تفتتن النساء به لحسنه.

                                                                                                                              وفي رواية الترمذي وغيره ، في هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل. فقال له العباس: لويت عنق ابن عمك. قال: " رأيت شابا وشابة ، فلم آمن الشيطان عليهما ") . فهذا يدل على: أن وضعه يده على وجه الفضل ، كان لدفع الفتنة عنه وعنها.

                                                                                                                              وفيه: أن من رأى منكرا ، وأمكنه إزالته بيده: لزمه إزالته. فإن [ ص: 490 ] قال بلسانه ، ولم ينكف المقول له ، وأمكنه بيده: أثم ، مادام مقتصرا على اللسان. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              وأقول: وفيه: أن الحجاب لنساء الأمة ، مستحب لا واجب. [ وإنما كان يجب على أزواجه صلى الله عليه وسلم ]. وهو نص القرآن فيهن. وهذا واضح لا يخفى ، ليس عليه حجاب.



                                                                                                                              (حتى أتى بطن محسر) بضم الميم وفتح الحاء ، وكسر السين المشددة.

                                                                                                                              سمي بذلك: لأن فيل أصحاب الفيل ، حسر فيه. أي: أعيى. أو كل.

                                                                                                                              ومنه قوله تعالى: ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير . أي: كليل.

                                                                                                                              قال في (شرح المنتقى) : ليس هو من مزدلفة ، ولا منى. بل هو مسيل بينهما. وقيل: إنه من منى.

                                                                                                                              (فحرك قليلا) . قال النووي: هي سنة ، من سنن السير في ذلك الموضع.

                                                                                                                              قال أصحابنا: يسرع الماشي ، ويحرك الراكب دابته ، في وادي محسر. ويكون ذلك قدر رمية حجر. انتهى.

                                                                                                                              قال الأزرقي: هو خمسمائة ذراع ، وخمسة وأربعون ذراعا. وإنما شرع الإسراع فيه: لأن العرب كانوا يقفون فيه ، ويذكرون مفاخر آبائهم. فاستحب الشارع مخالفتهم.

                                                                                                                              [ ص: 491 ] وحكى الواقفي وجها ضعيفا: أنه لا يستحب الإسراع للماشي.

                                                                                                                              قلت: والوجه " في هذا التحريك والإسراع ": الأمران كلاهما: (كون المحسر موضع حسر الفيل ، وكان مغضوبا مقهورا. وكونه موضع مفاخر ذلك الجيل) وهو فعل الجاهلية ، بلا قال وقيل. والله أعلم.

                                                                                                                              (ثم سلك الطريق الوسطى) .

                                                                                                                              فيه: أن سلوك هذا الطريق ، " في الرجوع من عرفات ": سنة. وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات.

                                                                                                                              وهذا معنى قول الشافعية: يذهب إلى عرفات في طريق ضب ، ويرجع في طريق المأزمين ،: ليخالف الطريق ، تفاؤلا بتغير الحال. كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخول مكة ، حين دخلها من الثنية العليا ، وخرج من الثنية السفلى. وخرج إلى العيد في طريق ، ورجع في طريق آخر. وحول رداءه في الاستسقاء.

                                                                                                                              (التي تخرج على الجمرة الكبرى) هي جمرة العقبة. وهي التي عند الشجرة.

                                                                                                                              (حتى أتى الجمرة ، التي عند الشجرة) .

                                                                                                                              قال في (سبل السلام) : وهي حد لمنى. وليس منها. والجمرة: اسم لمجمع الحصى. سميت بذلك ، لاجتماع الناس بها. يقال: أجمر بنو فلان ، إذا اجتمعوا. انتهى. [ ص: 492 ] فيه: أن السنة للحاج ، إذا دفع من مزدلفة فوصل منى: أن يبدأ بجمرة العقبة. ولا يفعل شيئا قبل رميها ، ويكون ذلك قبل نزوله.

                                                                                                                              (فرماها بسبع حصيات) .

                                                                                                                              فيه: أن الرمي ، بسبع حصيات.

                                                                                                                              [ وهو يرد قول ابن عمر: ما أبالي ، رميت الجمرة بست أو بسبع].

                                                                                                                              وروي عن مجاهد: (لا شيء على من رمى بست) .

                                                                                                                              وعن طاوس: (يتصدق بشيء) .

                                                                                                                              وعن مالك والأوزاعي: من رمى بأقل من سبع ، وفاته التدارك ، يجبره بدم.

                                                                                                                              وعن الشافعية: (في ترك حصاة: مد. وفي ترك حصاتين: مدان.

                                                                                                                              وفي ثلاثة فأكثر: دم) .

                                                                                                                              وعن الحنفية: (إن ترك أقل من نصف الجمرات الثلاث: فنصف صاع. وإلا فدم) .

                                                                                                                              (يكبر مع كل حصاة منها) .

                                                                                                                              فيه: أنه يسن التكبير ، مع كل حصاة.

                                                                                                                              وفيه: أنه يجب التفريق بين الحصيات ، فيرميهن واحدة واحدة.

                                                                                                                              [ ص: 493 ] فإن رمى السبعة رمية واحدة ، حسب ذلك كله: (حصاة واحدة) عند الشافعية، وعند الأكثرين.

                                                                                                                              وموضع الدلالة لهذه المسألة: "يكبر مع كل حصاة ". فهذا تصريح ، بأنه رمى كل حصاة وحدها. مع قوله في الحديث الآخر ، من أحاديث الرمي: "لتأخذوا عني مناسككم".

                                                                                                                              (مثل حصى الخذف) .

                                                                                                                              فيه: أن قدرهن بقدر ذلك. وهو نحو حبة الباقلاء.

                                                                                                                              قال النووي: وينبغي أن لا يكون أكبر ولا أصغر. فإن كان أكبر أو أصغر: أجزأه بشرط كونها حجرا.

                                                                                                                              ولا يجوز عند الشافعية والجمهور: الرمي بالكحل ، والزرنيخ ، والذهب ، والفضة، وغير ذلك ، مما لا يسمى حجرا.

                                                                                                                              ويجوزه أبو حنيفة: بكل ما كان من أجزاء الأرض. انتهى.

                                                                                                                              قلت: والأول أوضح ، وأظهر ، وأوفق بالحديث.

                                                                                                                              قال عياض: هكذا في معظم النسخ: (مثل حصى الخذف) . وكذلك رواه غير مسلم. وكذا رواه بعض رواة مسلم.

                                                                                                                              قال النووي: والذي في النسخ ، من غير لفظة (مثل) : هو الصواب.

                                                                                                                              بل لا يتجه غيره ، ولا يتم الكلام إلا كذلك. ويكون قوله:

                                                                                                                              (حصى الخذف) : متعلقا بحصيات.

                                                                                                                              [ ص: 494 ] أي: رماها بحصيات: (حصى الخذف) . يكبر مع كل حصاة.

                                                                                                                              (فحصى الخذف) متصل بحصيات. واعترض بينهما: (يكبر مع كل حصاة) . وهذا هو الصواب. انتهى.

                                                                                                                              (رمى من بطن الوادي) .

                                                                                                                              فيه: أن السنة ; أن يقف للرمي في بطن الوادي ، بحيث تكون " منى ، وعرفات ، والمزدلفة "، عن يمينه. ومكة عن يساره.

                                                                                                                              قال النووي: وهذا هو الصحيح ، الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة.

                                                                                                                              وقيل: يقف مستقبل القبلة.

                                                                                                                              وكيفما رمى أجزأه ، بحيث يسمى رميا ، بما يسمى حجرا.

                                                                                                                              قال: وأما حكم الرمي، فالمشروع منه "يوم النحر": رمي جمرة العقبة لا غير، بإجماع المسلمين.

                                                                                                                              وهو نسك بإجماعهم.

                                                                                                                              قال: ومذهبنا: أنه واجب ليس بركن. فإن تركه حتى فاتته أيام الرمي ، عصى ولزمه دم ، وصح حجه.

                                                                                                                              وقال مالك: يفسد حجه ، ويجب رميها بسبع حصيات. فلو بقيت منه واحدة ، لم تكفه الست.

                                                                                                                              (ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر " ثلاثا وستين " بيده) . هكذا هو في النسخ: (بيده) . [ ص: 495 ] وكذا نقله عياض عن جميع الرواة ، سوى ابن ماهان. فإنه رواه: (بدنة) . قال: وكلامه صواب. والأول أصوب. وكلاهما جرى. فنحر " ثلاثة وستين بدنة " بيده.

                                                                                                                              قال عياض: فيه دليل ، على أن (المنحر) : موضع معين من منى.

                                                                                                                              وحيث ذبح منها ، أو من الحرم ، أجزأه.

                                                                                                                              وفيه: استحباب تكثير الهدي. وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة:

                                                                                                                              (مائة بدنة) .

                                                                                                                              وفيه: استحباب ذبح المهدي " هديه " بنفسه.

                                                                                                                              (ثم أعطى عليا فنحر)

                                                                                                                              فيه: جواز الاستنابة فيه.

                                                                                                                              قال النووي: وذلك جائز بالإجماع ، إذا كان النائب مسلما.

                                                                                                                              وقال: ويجوز عندنا ، أن يكون النائب كافرا كتابيا ، بشرط أن ينوي صاحب الهدي: عند دفعه إليه ، أو عند حضور ذبحه.

                                                                                                                              (ما غبر) أي: ما بقي.

                                                                                                                              وفيه: استحباب تعجيل ذبح الهدايا ، وإن كانت كثيرة: في يوم النحر. ولا يؤخر بعضها إلى يوم التشريق.

                                                                                                                              (وأشركه في هديه) .

                                                                                                                              [ ص: 496 ] ظاهره: أنه شاركه في نفس الهدي.

                                                                                                                              قال عياض: وعندي أنه ، لم يكن تشريكا حقيقة. بل أعطاه قدرا يذبحه.

                                                                                                                              والظاهر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، نحر البدن التي جاءت معه من المدينة، وكانت ثلاثا وستين ، كما جاء في رواية الترمذي. وأعطى عليا: البدن التي جاءت معه من اليمن ، وهي تمام المائة. والله أعلم.

                                                                                                                              ثم أمر من كل بدنة: ببضعة فجعلت في قدر، فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها.

                                                                                                                              (البضعة) بفتح الباء: هي القطعة من اللحم.

                                                                                                                              وفيه: استحباب الأكل ، من هدي التطوع وأضحيته.

                                                                                                                              قال النووي. قال العلماء: لما كان الأكل من كل واحدة سنة ، وفي الأكل من كل واحدة " من المائة منفردة " كلفة: جعلت في قدر ، ليكون أكلا من مرق الجميع ، الذي فيه جزء من كل واحدة. ويأكل من اللحم المجتمع في المرق ، ما تيسر.

                                                                                                                              قال: وأجمع العلماء ، على أن الأكل من هدي التطوع وأضحيته: سنة ، ليس بواجب. انتهى.

                                                                                                                              (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر) . [ ص: 497 ] هذا الطواف ، هو طواف الإفاضة. وهو ركن من أركان الحج بإجماع المسلمين. لا يصح الحج إلا به.

                                                                                                                              قال النووي: أول وقته عندنا: من نصف ليلة النحر. وأفضله ; بعد رمي جمرة العقبة ، وذبح الهدي ، والحلق. ويكون ذلك ضحوة يوم النحر.

                                                                                                                              ويجوز في جميع يوم النحر، بلا كراهة.

                                                                                                                              ويكره: تأخيره عنه بلا عذر. وتأخيره عن أيام التشريق: أشد كراهة.

                                                                                                                              ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة.

                                                                                                                              ولا آخر لوقته. بل يصح مادام الإنسان حيا.

                                                                                                                              وشرطه: أن يكون بعد الوقوف بعرفات. حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف ليلة النحر ، قبل الوقوف ، ثم أسرع إلى عرفات ، فوقف قبل الفجر ، لم يصح طوافه. لأنه قدمه على الوقوف. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وطواف الإفاضة ، هو المأمور به في قوله تعالى: وليطوفوا بالبيت العتيق . وهو الذي يقال له: طواف الزيارة.

                                                                                                                              قال النووي: واتفق العلماء ، على أنه: لا يشرع في طواف الإفاضة: رمل ولا اضطباع ، إذا كان قد رمل واضطبع عقب طواف القدوم.

                                                                                                                              ولو طاف بنية الوداع ، أو القدوم ، أو التطوع ، وعليه طواف [ ص: 498 ] إفاضة: وقع عن طواف الإفاضة بلا خلاف عندنا. نص عليه الشافعي. واتفق الأصحاب عليه.

                                                                                                                              كما لو كان عليه حجة الإسلام ، فحج بنية قضاء أو نذر أو تطوع ، فإنه يقع عن حجة الإسلام.

                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء: لا يجزئ طواف الإفاضة ، بنية غيره. قال: ولهذا الطواف أسماء. فيقال: طواف الفرض. والركن.

                                                                                                                              وسماه بعضهم: طواف الصدر. وأنكره الجمهور. قالوا: وإنما طواف الصدر: طواف الوداع. انتهى.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: استحباب الركوب ، في الذهاب من منى إلى مكة ، ومن مكة إلى منى. ونحو ذلك ، من مناسك الحج.

                                                                                                                              ومن الشافعية: من استحب المشي هناك.

                                                                                                                              وتقدير العبارة: "فأفاض ، فطاف بالبيت طواف الإفاضة ، ثم صلى الظهر". فحذف ذكر (الطواف) ، لدلالة الكلام عليه.

                                                                                                                              وفي حديث ابن عمر عند مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أفاض يوم النحر ، صلى الظهر بمنى) .

                                                                                                                              قال النووي: ووجه الجمع بينهما: أنه صلى الله عليه وسلم ، طاف للإفاضة قبل [ ص: 499 ] الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها ، ثم رجع إلى منى ، فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه ، حين سألوه ذلك. فيكون متنفلا بالظهر الثانية ، التي بمنى.

                                                                                                                              وهذا كما ثبت في الصحيحين ، في صلاته (ببطن نخل) أحد أنواع صلاة الخوف. فإنه صلى الله عليه وسلم ، صلى بطائفة من أصحابه الصلاة بكمالها ، وسلم بهم. ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى. فكانت له صلاتان ، ولهم صلاة. انتهى.

                                                                                                                              يعني: فروى " ابن عمر " صلاته بمنى. وجابر صلاته بمكة. وهما صادقان.

                                                                                                                              قال في (شرح المنتقى) : وذكر ابن المنذر نحوه. ويمكن الجمع بأن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم، صلى بمكة ، ثم رجع إلى منى فوجد أصحابه يصلون الظهر ، فدخل معهم متنفلا ، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، لمن وجد جماعة يصلون وقد صلى. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخر الزيارة يوم النحر إلى الليل) ، فمحمول على أنه: عاد للزيارة مع نسائه ، لا لطواف الإفاضة. [ ص: 500 ] قال: ولا بد من هذا التأويل ، للجمع بين الأحاديث.

                                                                                                                              قال: وقد بسطت هذا الجواب في: (شرح المهذب) . والله أعلم.

                                                                                                                              (فأتى بني عبد المطلب) أي: بعد فراغه من طواف الإفاضة.

                                                                                                                              (يسقون على زمزم) أي: يغرفون بالدلاء ، ويصبونه في الحياض ونحوها ، ويسيلونه للناس.

                                                                                                                              (فقال: " انزعوا بني عبد المطلب !) بكسر الزاي. أي: استقوا بالدلاء ، وانزعوها بالرشاء.

                                                                                                                              (فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم ، لنزعت معكم) .

                                                                                                                              أي: لولا خوفي ، أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ، ويزدحمون عليه ، بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء ، لاستقيت معكم ، لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.

                                                                                                                              قال النووي: فيه فضيلة العمل في هذا الاستقاء.



                                                                                                                              (فناولوه دلوا ، فشرب منه) .

                                                                                                                              فيه: استحباب شرب ماء زمزم.

                                                                                                                              قال النووي: وأما " زمزم " ، فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام ، بينها وبين الكعبة: ثمان وثمانون ذراعا. [ ص: 501 ] قيل: سميت: " زمزم " ، لكثرة مائها. يقال: ماء زمزوم ، وزمزم ، وزمازم ، إذا كان كثيرا.

                                                                                                                              وقيل: لضم هاجر "رضي الله عنها " لمائها ، حين انفجرت ، وزمها إياه.

                                                                                                                              وقيل: لزمومة جبريل " عليه السلام " ، وكلامه عند فجره إياها.

                                                                                                                              وقيل: إنها غير مشتقة.

                                                                                                                              ولها أسماء أخر ، ذكرتها في: (تهذيب اللغات) ، مع نفائس أخرى تتعلق بها ;

                                                                                                                              منها: أن عليا " رضي الله عنه "، قال: (خير بئر في الأرض "زمزم ". وشر بئر في الأرض " برهوت ") . والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولولا خوف الإطالة ، لنقلت تلك العبارة ، من (تهذيب الأسماء واللغات) . فقد من الله علي بذلك الكتاب.

                                                                                                                              ولنا رسالة في مناسك الحج ، سميناه: (رحلة الصديق ، إلى البيت العتيق) حررناه عند السفر إلى الحرمين الشريفين. " زادهما الله: شرفا وكرامة وعظمة وشهامة ". جمعنا فيها: ما ثبت في هذا الباب ، من المأثورات الصحيحة ، الصريحة ، المحكمة ، المرفوعة. ونبهنا على ما أحدثه أهل البدع ، في هذه العبادة الشريفة ، الجامعة لكل خير وبركة وشرف ورحمة. [ ص: 502 ] وهي واحدة في بابها ، ناطقة بالصواب المحض في محرابها.

                                                                                                                              فإن شئت أن تحج ، وتكون حجتك على الطريقة المأثورة ، الثابتة بالسنة المطهرة ، فلا مندوحة لك منها.

                                                                                                                              وهذا آخر حديث جابر ، وشرحه على وجه الاختصار. ولو ذهبنا نتكلم على كل ما في هذا الحديث الشريف: من الفوائد ، والنكات ، والفحاوى ، والإشارات: لجاء في مؤلف مستقل.

                                                                                                                              وهذا الحديث: أصل أصيل في باب الحج ، ودليل جليل ، وبرهان جميل في أحكام هذه العبادة.

                                                                                                                              وقد ذكره الحافظ في: (بلوغ المرام) . لكن حذف منه الزيادات ، واقتصر على محل الحاجات.

                                                                                                                              وتبعه في هذا الاقتصار والاختصار: شارحه السيد العلامة ، بدر الملة المنير: محمد بن إسماعيل الأمير " قدس سره " ، في: (سبل السلام ، شرح بلوغ المرام) .

                                                                                                                              ثم قال في آخر الحديث المختصر المذكور ، ما نصه المسطور: قلت: وليعلم: أن الأصل في كل ما ثبت أنه فعله صلى الله عليه وسلم في حجه: الوجوب. لأمرين;

                                                                                                                              أحدهما: أن أفعاله في الحج ، بيان للحج الذي أمر الله تعالى به مجملا في القرآن. والأفعال في بيان الوجوب: محمولة على الوجوب.

                                                                                                                              [ ص: 503 ] والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) . فمن ادعى: عدم وجوب شيء من أفعاله في الحج ، فعليه الدليل.

                                                                                                                              قال: ولنذكر ما يحتمله المختصر: من فوائده ودلائله. انتهى.

                                                                                                                              ثم ذكر أشياء من ذلك ، ثم قال: هذه الجمل ، من السنن والآداب ، التي أفادها هذا الحديث الجليل: من أفعاله صلى الله عليه وسلم ، يبين كيفية أعمال الحج.

                                                                                                                              قال: وفي كثير مما دل عليه هذا الحديث ، مما سقناه: خلاف بين العلماء كثير ، في وجوبه وعدم وجوبه. وفي لزوم الدم بتركه وعدم لزومه. وفي صحة الحج إن ترك منه شيئا أو عدم صحته. فلم نطول بذكر ذلك في الشرح ، واقتصرنا على ما أفاده الحديث.

                                                                                                                              فالآتي مما اشتمل عليه الحديث ، هو الممتثل لقوله صلى الله عليه وسلم : (خذوا عني مناسككم) ، والمقتدي به في أفعاله وأقواله. انتهى.

                                                                                                                              قلت: ولكني أتيت " في شرح الحديث ": بما تركه السيد المبرور ; من خلاف أهل العلم في حكم المسائل ، تنبيها على ما قاله العلماء ، حفظا للمذاهب ، لا ليعمل به العاملون على العلات.

                                                                                                                              والذي يترجح في مقام الإنصاف ، ما صرح به السيد: من وجوب ، أفعاله صلى الله عليه وسلم في هذه العبادة. وبذلك قال شيخنا الإمام الرباني " محمد بن علي الشوكاني " ، في مؤلفاته الشريفة الممتعة. وقلت به أيضا ، في مواضع من هذا الشرح.

                                                                                                                              [ ص: 504 ] قال في (شرح المنتقى) : قال النووي وغيره: هذا الحديث [ يعني: حديث جابر المختصر الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: " لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري: لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " رواه أحمد ومسلم والنسائي ]: أصل عظيم في مناسك الحج. وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "صلوا كما رأيتموني".

                                                                                                                              قال القرطبي: ويلزم من هذين الأصلين: أن الأصل في أفعال الصلاة والحج: الوجوب. إلا ما خرج بدليل ، كما ذهب إليه أهل الظاهر. وحكي عن الشافعي. انتهى.

                                                                                                                              قال: وقد قدمنا في الصلاة: أن مرجع واجباتها ، إلى حديث (المسيء) .

                                                                                                                              فلا يجب غير ما اشتمل عليه ، إلا بدليل يخصه.

                                                                                                                              وقدمنا: أن أفعال الحج وأقواله ، الظاهر فيها: الوجوب ، إلا ما خرج بدليل ، كما قالت الظاهرية. وهو الحق. انتهى.

                                                                                                                              وقال في (السيل الجرار) : الحج الذي طلبه الله من عباده ، قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم ، فحج بأصحابه وقال لهم: " خذوا عني مناسككم".

                                                                                                                              فالحج الذي فرضه الله على الناس في كتابه: هو مجموع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، معلما لأمته.

                                                                                                                              فمن ادعى أن شيئا مما فعله غير واجب: احتاج إلى الدليل. انتهى.

                                                                                                                              قلت: لا تغتر بما نقلنا في " شرح هذا الحديث "، من حكاية القال والقيل ، وخذ بمناسك الحج على ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : في هذا القبيل.

                                                                                                                              [ ص: 505 ] وللسيد الأمير " قدس سره ": منسك مستقل ، اشتمل على السنن الصحيحة ، الثابتة في دواوين الإسلام ، ليس فيه من ذكر المذاهب شيء ، إنما هو سنة محضة.

                                                                                                                              وكذا حكاية حجه صلى الله عليه وسلم في: (الهدي النبوي) ، وتصحيح أحكامه في: (نيل الأوطار) ، و(السيل الجرار) ، و(وبل الغمام) ، و(الصراط المستقيم) ، و(منسك شيخ الإسلام ابن تيمية) ، و(مسك الختام) لهذا الحقير الفقير ، إلى ربه الكريم.

                                                                                                                              فهذه الكتب والرسائل ، تهديك في هذه العبادة إلى سواء السبيل ، والطريق القويم. فعليك بها ، إن كنت ممن يحب الله ورسوله ، ولا يهاب أحدا من آحاد الأمة ، كائنا من كان ، وأينما كان.

                                                                                                                              ولكن لا أتيقن ذلك منك ، فإن الزمان فسد ، والإسلام صار غريبا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا.




                                                                                                                              الخدمات العلمية