الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني [ ص: 557 ] إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين

روي عن ابن عباس رضى الله عنهما، وغيره في تفسير هذه الآية، لما نزلت: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية، ونزل مع ذلك ذكر عيسى عليه السلام وحاله وكيف خلق من غير فحل، قالت فرقة: ما يريد محمد -عليه الصلاة والسلام- من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى عليه السلام، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو جعفر ، والأعرج ، والنخعي ، وأبو رجاء ، وابن وثاب : "يصدون" بضم الصاد، بمعنى: يعرضون، وقرأ الباقون، وابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعكرمة : "يصدون" بكسر الصاد، بمعنى يضحكون، قاله ابن عباس وغيره، وأنكر ابن عباس رضى الله عنهما ضم الصاد، ورويت عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وقال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد، مثل "يعرشون، و"يعرشون" .

وقوله تعالى: وقالوا أآلهتنا خير أم هو ابتداء معنى ثان، وذلك أنه لما نزلت: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم جاء عبد الله بن الزبعري ونظراؤه، فقالوا: نحن نخصم محمدا، أآلهتنا خير أم عيسى؟ وعلموا أن الجواب أن يقال عيسى، قالوا: وهذه آية الحصب لنا أو لكل الأمم من الكفار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل لكل من تقدم أو تأخر من الكفار"، فقالوا: نحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى، إذ هو خير منها، وإذ قد عبد فهو من الحصب إذن، فقال الله تعالى: ما ضربوه لك إلا جدلا أي: ما مثلوا هذا التمثيل إلا جدلا منهم ومغالطة، ونسوا أن عيسى صلى الله عليه وسلم لم يعبد برضى منه ولا عن إرادة، ولا له في ذلك ذنب.

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : "أآلهتنا" بهمزة استفهام وهمزة بعدها بين بين وألف [ ص: 558 ] بعدها، وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بهمزتين محققتين بعد الثانية ألف، وقرأ ورش عن نافع بغير استفهام: "آلهتنا" على مثال الخبر، وقرأ قالون عن نافع : "آلهتنا" بهمزة واحدة بعدها مدة، وفي مصحف أبي بن كعب : "خير أم هذا"، فالإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وخرجت هذه القراءة على التأويل الأول الذي فسرناه، وكذلك قالت فرقة ممن قرأ: "ألهتنا خير أم هو": إن الإرادة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول قتادة . وقال ابن زيد ، والسدي : المراد بـ "هو": عيسى عليه السلام ، وهذا هو المترجح.

و"الجدال" عند العرب: المحاورة بمغالطة أو تحقيق أو ما اتفق من القول، إنما المقصد به أن يغلب صاحبه في الظاهر لا أن يتطلب الحق في نفسه، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ، ثم قرأ: ما ضربوه لك إلا جدلا قال أبو أمامة : ورأى النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتنازعون في القرآن فغضب حتى كأنما صب في وجهه الخل، وقال: "لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فما ضل قوم إلا أوتوا الجدل"، ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهل خصام ولدد.

وأخبر تعالى عن عيسى عليه السلام أنه عبد أنعم الله عليه بالنبوة والمنزلة العالية، وجعله مثلا لبني إسرائيل، [وقوله: "ولو نشاء" الآية، أي: لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل، فإن القدرة تقضي ذلك وأكثر منه.

وقوله تعالى: لجعلنا منكم معناه: لجعلنا بدلا منكم، أي: لو شاء الله تعالى لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون بني آدم فيها، وقال ابن [ ص: 559 ] عباس ومجاهد : يخلف بعضهم بعضا.

والضمير في قوله تعالى: وإنه لعلم للساعة قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك ، وابن زيد : الإشارة به إلى عيسى عليه السلام، وقالت فرقة: إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن أيضا، وقتادة : إلى القرآن، وقرأ جمهور الناس: "لعلم" بكسر العين وسكون اللام، وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وقتادة ، وأبو مالك الغفاري، ومجاهد ، وأبو نضرة المنذر بن كعب ، ومالك بن دينار : "وإنه العلم" بفتح العين واللام، وقرأ عكرمة مولى ابن عباس رضى الله عنهما: "وإنه للعلم" بلامين، وقرأ أبي بن كعب : "وإنه لذكر للساعة"، فمن قال إن الإشارة إلى لعيسى عليه السلام حسن مع تأويله "علم" و"علم"، أي: هو إشعار بالساعة وشرط من أشراطها، يعني خروجه في آخر الزمان، وكذلك من قال: الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو آخر الأنبياء عليهم السلام ، فقد تميزت الساعة به نوعا وقدرا من التمييز، وبقي التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ومن قال: الإشارة إلى القرآن، حسن قوله في قراءة من قرأ: "لعلم" بكسر العين وسكون اللام، أي: يعلمكم بها وبأهوالها وصفاتها، وفي قراءة من قرأ: "لذكر".

وقوله تعالى: فلا تمترن أي: قل لهم يا محمد: لا تشكن فيها، وقوله تعالى: هذا صراط مستقيم إشارة إلى الشرع، ثم أمره بتحذير العباد من الشيطان وإغوائه، ونبههم على عداوته.

التالي السابق


الخدمات العلمية