الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (23) قوله تعالى : وراودته : أي : طالبته برفق ولين قول ، والمراودة المصدر ، والريادة : طلب النكاح ، ومشى رويدا ، أي : ترفق في [ ص: 463 ] مشيته ، والرود ، الرفق في الأمور والتأني فيها ، ورادت المرأة في مشيها ترود رودانا من ذلك ، والمرود هذه الآلة منه ، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب حاجة ، وقد تقدم ذلك في البقرة ، وتعدى هنا بـ " عن " لأنه ضمن معنى خادعت ، أي : خادعته عن نفسه ، والمفاعلة هنا من الواحد نحو : داويت المريض ، ويحتمل أن تكون على بابها ، فإن كلا منهما كان يطلب من صاحبه شيئا برفق ، هي تطلب منه الفعل وهو يطلب منها الترك . والتشديد في " غلقت " للتكثير لتعدد المجال .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : هيت لك اختلف أهل النحو في هذه اللفظة : هل هي عربية أم معربة ، فقيل : معربة من القبطية بمعنى هلم لك ، قاله السدي . وقيل : من السريانية ، قاله ابن عباس والحسن . وقيل : هي من العبرانية وأصلها هيتلخ ، أي : تعاله فأعربه القرآن ، قاله أبو زيد الأنصاري . وقيل : هل لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها تعال ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقول عن عكرمة . والجمهور على أنها عربية ، قال مجاهد : " هي كلمة حث وإقبال ، ثم هي في بعض اللغات تتعين فعليتها ، وفي بعضها اسميتها ، وفي بعضها يجوز الأمران ، وستعرف ذلك من القراءات المذكورة فيها :

                                                                                                                                                                                                                                      فقرأ نافع وابن ذكوان " هيت " بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة . وقرأ " هيت " بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة ابن كثير . وقرأ " هئت " بكسر الهاء وهمزة ساكنة وتاء مفتوحة أو مضمومة هشام . وقرأ " هيت " بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مفتوحة الباقون ، فهذه خمس قراءات في السبع .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 464 ] وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن وابن محيصن بفتح الهاء وياء ساكنة وتاء مكسورة . وحكى النحاس أنه قرئ بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة . وقرأ ابن عباس أيضا " هييت " بضم الهاء وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة حييت . وقرأ زيد بن علي وابن أبي إسحاق بكسر الهاء وياء ساكنة وتاء مضمومة . فهذه أربع في الشاذ فصارت تسع قراءات . فيتعين كونها اسم فعل في غير قراءة ابن عباس " هييت " بزنة حييت . وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كان ذلك بالياء أم بالهمز : فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفا نحو : أين وكيف ، ومن ضمها كابن كثير فتشبيها ب " حيث " ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين كجير ، وفتح الهاء وكسرها لغتان .

                                                                                                                                                                                                                                      ويتعين فعليتها في قراءة ابن عباس " هييت " بزنة " حييت " فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلم من هيأت الشيء ، ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء وضم التاء ، فيحتمل أن تكون فيه اسم فعل بنيت على الضم كحيث ، وأن تكون فعلا مسندا لضمير المتكلم من هاء الرجل يهيء كجاء يجيء وله حينئذ معنيان ، أحدهما : أن يكون بمعنى حسن هيئة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن يكون بمعنى تهيأ ، يقال : هئت ، أي : حسنت هيئتي أو تهيأت . وجوز أبو البقاء أن تكون " هئت " هذه من : هاء يهاء ، كشاء يشاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد طعن جماعة على قراءة هشام التي بالهمز وفتح التاء ، فقال الفارسي : " يشبه أن [يكون] الهمز وفتح التاء وهما من الراوي ، لأن الخطاب من المرأة ليوسف ولم يتهيأ لها بدليل قوله : " وراودته " و أني [ ص: 465 ] لم أخنه بالغيب وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بن أبي طالب : " يجب أن يكون اللفظ " هئت لي " ولم يقرأ بذلك أحد " وأيضا فإن المعنى على خلافه لأنه لم يزل يفر منها ويتباعد عنها ، وهي تراوده وتطلبه وتقد قميصه ، فكيف يخبر أنها تهيأ لها ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى : تهيأ لي أمرك ، لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حسنت هيئتك .

                                                                                                                                                                                                                                      و " لك " متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأنها قالت : القول لك أو الخطاب لك ، كهي في " سقيا لك ورعيا لك " . قلت : واللام متعلقة بمحذوف على كل قراءة إلا قراءة ثبت فيها كونها فعلا ، فإنها حينئذ تتعلق بالفعل ، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء : " والأشبه أن تكون الهمزة بدلا من الياء ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلا لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عليه السلام ، وهو فاسد لوجهين ، أحدهما : أنه لم يتهيأ لها وإنما هي تهيأت له . والثاني : أنه قال لك ، ولو أراد الخطاب لكان هئت لي " . قلت : قد تقدم جوابه . وقوله : " إن الهمزة بدل من الياء " هذا عكس لغة العرب إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة الساكنة ياء إذا انكسر ما قبلها نحو : بير وذيب ، ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة نحو : ميل وديك ، وأيضا فإن غيره جعل الياء الصريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع وابن ذكوان [ ص: 466 ] محتملة لأن تكون بدلا من الهمزة ، قالوا : فيعود الكلام فيها كالكلام في قراءة هشام . واعلم أن القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورة عن هشام ، وأما ضم التاء فغير مشهور عنه ، وهذا قد أتقنته في شرح " حرز الأماني " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : معاذ الله منصوب على المصدر بفعل محذوف ، أي : أعوذ بالله معاذا : يقال : عاذ يعوذ عياذا وعياذة ومعاذا وعوذا ، قال :


                                                                                                                                                                                                                                      2764 - معاذ الإله أن تكون كظبية ولا دمية ولا عقيلة ربرب

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إنه يجوز أن تكون الهاء ضمير الشأن وما بعده جملة خبرية له ، ومراده بربه سيده ، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى . و " ربي " يحتمل أن يكون خبرها ، و " أحسن " جملة حالية لازمة ، وأن تكون مبتدأ ، و " أحسن " جملة خبرية له ، والجملة خبر لـ " إن " . وقد أنكر جماعة الأول ، قال مجاهد والسدي وابن إسحاق . يبعد جدا أن يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه ، ولا بمعنى السيد لأنه ليس مملوكا في الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجحدري وأبو الطفيل الغنوي " مثوي " بقلب الألف ياء وإدغامها كبشري وهدي .

                                                                                                                                                                                                                                      و إنه لا يفلح هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية