الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين

لما ذكر الله تعالى حال أهل الجنة وما يقال لهم، عقب ذلك بذكر حال الكفرة من [ ص: 563 ] الخلود في النار والإبلاس، ليبين الفرق ولتتضح الأمور التي منها النذارة، و"المجرمون" في هذه الآية: الكفار، بدليل الخلود وما تتضمنه ألفاظ الآية من مخاطبة مالك وغير ذلك، و"المبلس": المبعد اليائس من الخير، قاله قتادة وغيره، وقرأ ابن مسعود : "وهم فيها مبلسون" أي في جهنم.

وقوله تعالى: وما ظلمناهم أي: ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه، ولكن هم ظلموا في أن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها، ووضعوا الكفر والتفريط في جنب الله تعالى، وقرأ الجمهور: "كانوا هم الظالمين" على الفصل، وقرأ ابن مسعود : "كانوا هم الظالمون" على الابتداء والخبر، وأن تكون الجملة خبر "كان"، ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون مالك خازن النار، فيقولون -على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر-: "ليقض علينا ربك" أي: ليمتنا مدة حتى لا يتكرر عذابنا، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: "يا مالك " بالكاف، وهي قراءة الجمهور، وقرأ ابن مسعود ، ويحيى ، والأعمش : "يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي رضى الله عنه، ورواها أبو الدرداء رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. و"القضاء" -في هذه الآية- بمعنى الموت، كقوله تعالى: فوكزه موسى فقضى عليه ، وروي في تفسيرها عن ابن عباس رضى الله عنهما أن مالكا يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، وقيل: ثمانين سنة، وقال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما : أربعين سنة، ثم يقول لهم: إنكم ماكثون .

وقوله تعالى: لقد جئناكم الآية، يحتمل أن يكون من قول مالك لأهل النار، ويكون قوله: "جئناكم" على حد ما يدخل أحد -حمله الرئيس كتابه- نفسه في فعل الرئيس، فيقول: غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا، ثم ينقطع كلام مالك في قوله: "كارهون"، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: "لقد جئناكم" من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف فصيح، بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم، ثم تتصل الآية -على هذا- بما بعدها من أمر قريش. [ ص: 564 ] وقوله تعالى: أم أبرموا أمرا يريد: هل أحكموا أمرا من أمور مكرهم وتدبيرهم على محمد صلى الله عليه وسلم كما فعلوا في اجتماعهم على مثله في دار الندوة إلى غير ذلك، و "أم" في هذه الآية: المنقطعة، وقوله تعالى: "فإنا مبرمون"، أي: فإنا محكمو نصره وحمايته، والإبرام: أن تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلا متقنا، والبريم: خيط فيه لونان.

وقوله تعالى: أم يحسبون الآية، قال محمد بن كعب القرظي : نزلت لأن كثيرا من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السرار، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم ابن مسعود رضى الله عنه يقولون عند الكعبة: أترى الله يسمعنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا... الحديث، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع -أي يدرك- السر والنجوى، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك، وتعد للجزاء يوم القيامة.

واختلف المفسرون في قوله تعالى: قل إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين فقالت فرقة: العابدون: هو من العبادة، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك، فقال قتادة والسدي والطبري : المعنى: قل لهم يا محمد: إن كان للرحمن ولد -كما تقولون- فأنا أول من يعبد على ذلك، ولكن ليس له شيء من ذلك تعالى وجل. قال الطبري : فهذا إلطاف في الخطاب، ونحوه قوله تعالى: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وقوله تعالى في مخاطبة الكفار: "أين شركائي" .

وقال مجاهد : المعنى: إن كان لله تعالى ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم، وقال قتادة أيضا، وزهير بن محمد، وابن زيد : "إن" نافية بمعنى: "ما"، فكأنه [ ص: 565 ] تعالى قال: قل ما كان للرحمن ولد، وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدئ: فأنا أول العابدين ، قاله أبو حاتم ، وقالت فرقة: العابدون: من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء، وقال الشاعر:


متى يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما



ومنه حديث عثمان وعلي رضى الله عنهما في المرجومة حين قال علي: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، قال: فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد، والمعنى: إن جعلتم للرحمن ولدا وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك.

وقرأ الجمهور: "ولد" بفتح الواو واللام، وقرأ ابن مسعود ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش : "ولد" بضم الواو وسكون اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن : "أول العبدين"، وهي على هذا المعنى، قال أبو حاتم : العبد -بكسر الباء-: الشديد الغضب. وقال أبو عبيدة : معناه: أول الجاحدين، والعرب تقول: "عبدني حقي"، أي جحدني.

التالي السابق


الخدمات العلمية