الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في ليلة القدر

                                                                                                          حدثني زياد عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد من صبحها في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر قال أبو سعيد فأمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد قال أبو سعيد فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح ليلة إحدى وعشرين [ ص: 317 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 317 ] 6 - باب ما جاء في ليلة القدر

                                                                                                          سميت بذلك لعظم قدرها ، أي ذات القدر العظيم لنزول القرآن فيها ولوصفها بأنها ( خير من ألف شهر ) ، ( سورة القدر : الآية 3 ) ، أو لتنزل الملائكة فيها أو لنزول البركة والمغفرة والرحمة فيها ، أو لما يحصل لمن أحياها بالعبادة من القدر الجسيم ، وقيل : القدر هنا التضييق كقوله تعالى : ( ومن قدر عليه رزقه ) ( سورة الطلاق : الآية 7 ) ، ومعنى التضييق إخفاؤها عن العلم بتعيينها أو لضيق الأرض فيها عن الملائكة ، وقيل : القدر هنا بمعنى القدر بفتح الدال المواخي للقضاء ، أي يقدر فيها أحكام السنة لقوله تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) ( سورة الدخان : الآية 4 ) ، وبه صدر النووي ونسبه للعلماء ، ورواه عبد الرزاق وغيره بأسانيد صحيحة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم من المفسرين ، وقال التوربشتي : إنما جاء القدر بسكون الدال وإن كان الشائع في القدر مواخي القضاء فتحها ليعلم أنه لم يرد به ذلك ، وإنما أريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة ليحصل ما يلقى إليهم فيها مقدار بمقدار ، وقال غيره : القدر بسكون الدال ويجوز فتحها مصدر قدر الله الشيء قدرا وقدرا كالنهر والنهر .

                                                                                                          701 695 - ( مالك عن يزيد ) بتحتية قبل الزاي ( ابن عبد الله بن الهاد ) بلا ياء بعد الدال عند المحدثين المدني المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة ، ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ) تيم قريش المدني المتوفى سنة عشرين ومائة على الصحيح ، ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف ( عن أبي سعيد الخدري ) سعد بن مالك بن سنان ( أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط ) بضم الواو والسين جمع " وسطى " ، ويروى بفتح السين مثل : كبر وكبر ، ورواه الباجي بإسكانها جمع " واسط " كبازل وبزل ، قاله الحافظ .

                                                                                                          وتعقبه السيوطي بأن الذي في منتقى الباجي وقع في كتابي مقيدا بضم الواو والسين ، ويحتمل أنه جمع " واسط " ، قال في العين : واسط الرحل ما بين قادمته وآخرته ، وقال أبو عبيد : وسط البيوت بسطها إذا نزل وسطها ، واسم الفاعل واسط ، ويقال في جمعه وسط كبازل وبزل .

                                                                                                          وأما الوسط بفتح [ ص: 318 ] الواو والسين فيحتمل أنه جمع أوسط وهو جمع وسيط ، كما يقال : كبيرا وأكبرا وأكبر ، ويحتمل أنه اسم لجمع الوقت على التوحيد كوسط الدار ووسط الوقت والشهر ، فإن كان قرئ بفتح الواو والسين فهذا عندي معناه ( من رمضان ) فيه مداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فالاعتكاف فيه سنة لمواظبته عليه ، قال ابن عبد البر : ولعل مراده رمضان لا بقيد وسطه إذ هو لم يداوم عليه .

                                                                                                          ( فاعتكف عاما ) مصدر عام إذا سبح فالإنسان يعوم في دنياه على الأرض طول حياته فإذا مات غرق فيها أي اعتكف في رمضان في عام ، ( حتى إذا كان ليلة ) بالنصب وضبطه بعضهم بالرفع فاعل " كان " التامة بمعنى ثبت نحوه ، ( إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج فيها ) ، وقوله : ( من صبحها ) رواية يحيى وابن بكير والشافعي ، ورواه القعنبي وابن القاسم وابن وهب وجماعة يخرج فيها ( من اعتكافه ) لم يقولوا من صبحها ، وقد روى ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك : من اعتكف أول الشهر أو وسطه خرج إذا غابت الشمس آخر يوم من اعتكافه ، ومن اعتكف من آخر الشهر فلا ينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد . قاله ابن عبد البر ، وقد استشكل ابن حزم وغيره هذه الرواية بأن ظاهرها أنه خطب أول اليوم الحادي والعشرين فأول ليالي اعتكافه الآخر ليلة اثنين وعشرين فيخالف قوله آخر الحديث : " فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين " ، فإنه ظاهر في أن الخطبة كانت في صبح اليوم العشرين ، ووقوع المطر في ليلة إحدى وعشرين ، وهو الموافق لبقية الطرق ، فكان في هذه الرواية تجوزا أي من الصبح الذي قبلها فنسبة الصبح إليها مجاز .

                                                                                                          وحكى المطرز أن العرب قد تجعل ليلة اليوم الآتية بعده ومنه : ( عشية أو ضحاها ) ( سورة النازعات : الآية 46 ) فأضافه إلى العشية وهو قبلها ، ويؤيده أن في رواية للشيخين : فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه وهذا في غاية الإيضاح .

                                                                                                          وقال السراج البلقيني : المعنى حتى إذا كان المستقبل من الليالي ليلة إحدى وعشرين ، وقوله : وهي الليلة التي يخرج الضمير يعود على الليلة الماضية ويؤيد هذا أنه ( قال من اعتكف معي ) العشر الوسط ( فليعتكف العشر الأواخر ) لأنه لا يتم ذلك إلا بإدخاله الليلة الأولى .

                                                                                                          وفي رواية للشيخين : " فخطبنا صبيحة عشرين " ، وفي أخرى لهما : " فخطب الناس فأمرهم ما شاء الله ثم قال : كنت أجاور هذه العشر ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه " .

                                                                                                          وفي مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد : " أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير فأخذه فنحاه في ناحية القبة ثم كلم الناس فقال : إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الأوسط ثم [ ص: 319 ] أوتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه " ، وعند البخاري : " أن جبريل أتاه في المرتين فقال له : إن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة والميم أي قدامك " ، ( وقد رأيت ) وفي رواية أريت بهمزة أوله مضمومة مبني للمفعول أي أعلمت ، ( هذه الليلة ) نصب مفعول به لا ظرف أي أريت ليلة القدر .

                                                                                                          وجوز الباجي أن الرؤية بمعنى البصر أي رأى علامتها التي أعلمت له بها وهي السجود في الماء والطين ، ( ثم أنسيتها ) بضم الهمزة ، قال القفال : ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عيانا ثم نسي في أول ليلة رأى ذلك لأن مثل هذا قل أن ينسى ، وإنما معناه أنه قيل له ليلة القدر ليلة كذا وكذا فنسي كيف قيل له .

                                                                                                          ( وقد رأيتني ) بضم التاء ، وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول وهو المتكلم ، وذلك من خصائص أفعال القلوب أي رأيت نفسي ، ( أسجد من صبحتها ) بمعنى في كقوله تعالى : ( من يوم الجمعة ) ( سورة الجمعة : الآية 9 ) ، أو لابتداء الغاية الزمانية ، ( في ماء وطين ) علامة جعلت له يستدل بها عليها ، ثم المراد أنه نسي علم تعيينها تلك السنة لا رفع وجودها لأمره بطلبها بقوله : ( فالتمسوها في العشر الأواخر ) من رمضان ، ( والتمسوها في كل وتر ) منه أي أوتار لياليه ، وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين ، وهذا لا ينافي قوله التمسوها في السبع الأواخر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحدث بما هنا جازما به ، قال الباجي : يحتمل في ذلك العام ، ويحتمل أنه الأغلب في كل عام ، ويدل على الأول أنه روي في هذا الحديث : إني قد رأيتها فنسيتها وهي ليلة مطر وريح ، أو قال قطر وريح .

                                                                                                          ( قال أبو سعيد : فأمطرت السماء تلك الليلة ) ، يقال في الليلة الماضية الليلة إلى الزوال فيقال البارحة .

                                                                                                          وفي رواية في الصحيحين : " وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد " ( وكان المسجد على عريش ) أي على مثل العريش ، وإلا فالعريش هو السقف ، أي أنه كان مظللا بالخوص والجريد ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر .

                                                                                                          وفي رواية : " وكان السقف من جريد النخل " ، ( فوكف المسجد ) أي سال ماء المطر من سقفه فهو من ذكر المحل وإرادة الحال .

                                                                                                          ( قال أبو سعيد : فأبصرت عيناي ) توكيد كقولك : أخذت بيدي ، وإنما يقال في أمر يعز الوصول إليه إظهارا للتعجب من تلك الحالة الغريبة .

                                                                                                          ( رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف وعلى جبهته ) ، وفي رواية : جبينه ( وأنفه أثر الماء والطين من ) صلاة ( صبح ليلة إحدى وعشرين ) متعلق بقوله انصرف ، وفي [ ص: 320 ] رواية : " فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه وأنفه فيهما الماء والطين " تصديق رؤياه ، وفيه السجود على الطين ، وحمله الجمهور على الخفيف والسجود على الجبهة والأنف جميعا ، فإن سجد على أنفه وحده لم يجزه ، وعلى جبهته وحدها أساء وأجزأه قاله مالك .

                                                                                                          وقال الشافعي : لا يجزئه بظاهر هذا الحديث .

                                                                                                          وقال أبو حنيفة : إذا سجد على جبهته أو ذقنه أو أنفه أجزأ لخبر : " أمرت أن أسجد على سبعة آراب " وذكر منها الوجه ، فأي شيء وضع من الوجه أجزأه وليس بشيء لأن هذا الحديث ذكر فيه جمع من الحفاظ الجبهة والأنف ، وأخرجه البخاري عن إسماعيل عن مالك به ، وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما ، وقال ابن عبد البر : هذا أصح حديث في الباب .




                                                                                                          الخدمات العلمية