الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (30) قوله تعالى : وقال نسوة النسوة فيها أقوال ، المشهور أنها جمع تكسير للقلة على فعله كالصبية والغلمة . ونص بعضهم على عدم اطرادها وليس لها واحد من لفظها . والثاني : أنها اسم مفرد لجمع المرأة ، قاله الزمخشري . والثالث : أنها اسم جمع قاله أبو بكر بن السراج [ ص: 475 ] وكذلك أخواتها كالصبية والفتية . وعلى كل قول فتأنيثها غير حقيقي باعتبار الجماعة ، ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث ، والمشهور كسر نونها ، ويجوز ضمها في لغة ، ونقلها أبو البقاء قراءة ولم أحفظه ، وإذا ضمت نونه كان اسم جمع بلا خلاف ، ويكسر في الكثرة على نسوان ، والنساء جمع كثرة أيضا ولا واحد له من لفظه ، كذا قال الشيخ ، ومقتضى ذلك أن لا يكون النساء جمعا لنسوة لقوله : " لا واحد له من لفظه " .

                                                                                                                                                                                                                                      و " في المدينة " يجوز تعلقه بمحذوف صفة لنسوة وهو الظاهر ، وب " قال " وليس بظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تراود خبر " امرأت العزيز " ، وجيء بالمضارع تنبيها على أن المراودة صارت سجية لها وديدنا ، دون الماضي ، فلم يقلن " راودت " . ولام " الفتى " ياء لقولهم الفتيان وفتي ، وعلى هذا فقولهم " الفتوة " في المصدر شاذ .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قد شغفها هذه الجملة يجوز أن [تكون] خبرا ثانيا ، وأن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا : إما من فاعل " تراود " وإما من مفعوله . و " حبا " تمييز ، وهو منقول من الفاعلية ، والأصل : قد شغفها حبه . والعامة على " شغفها " بالغين المعجمة مفتوحة بمعنى خرق شغاف قلبها ، وهو مأخوذ من الشغاف والشغاف : حجاب القلب جليدة رقيقة . وقيل : سويداء القلب . وقيل : داء يصل إلى القلب من أجل الحب وقيل : جليدة رقيقة يقال لها لسان القلب ليست محيطة به ، ومعنى شغف قلبه ، أي : خرق حجابه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحب ، وهو من شغف البعير بالهناء إذا طلاه بالقطران فأحرقه . والمشغوف : من وصل الحب لقلبه ، قال الأعشى : [ ص: 476 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2768 - تعصي الوشاة وكان الحب آونة مما يزين للمشغوف ما صنعا

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النابغة الذبياني :


                                                                                                                                                                                                                                      2769 - وقد حال هم دون ذلك والج     مكان الشغاف تبتغيه الأصابع

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ثابت البناني بكسر الغين . قيل : وهي لغة تميم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة ، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كسر المهملة أيضا . واختلف الناس في ذلك فقيل : هو من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران ، قاله الزمخشري ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      2770 - ... ... ... ...     كما شعف المهنؤءة الرجل الطالي

                                                                                                                                                                                                                                      والناس إنما يروونه بالمعجمة ويفسرونه بأنه أصاب حبي شغاف قلبها أي أحرق حجابه ، وهي جليدة رقيقة دونه ، " كما شغف " ، أي : كما أحرق وبالغ المهنوءة ، أي : المطلية بالهناء وهو القطران ، ولا ينشدونه بالمهملة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء لما حكى هذه القراءة : " من قولك : فلان مشعوف [ ص: 477 ] بكذا ، أي : مغرى به ، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب . وفرق بعضهم بينهما فقال ابن زيد : " الشغف يعني بالمعجمة في الحب ، والشعف في البغض " . وقال الشعبي : " الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب ، والشعف الجنون ، والمشعوف : المجنون " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : متكأ العامة على ضم الميم وتشديد التاء وفتح الكاف والهمز ، وهو مفعول به بأعتدت ، أي : هيأت وأحضرت . والمتكأ الشيء الذي يتكأ عليه من وسادة ونحوها . وقيل : المتكأ : مكان الاتكاء . وقيل : طعام يحز حزا وهو قول مجاهد . قال القتبي : " يقال : اتكأنا عند فلان ، أي : أكلنا " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : " من قولك : اتكأنا عند فلان : طعمنا ، على سبيل الكناية ؛ لأنه من " دعوته ليطعم عندك " : اتخذت له تكأة يتكئ عليها . قال جميل :


                                                                                                                                                                                                                                      2771 - فظللنا بنعمة واتكأنا     وشربنا الحلال من قلله "

                                                                                                                                                                                                                                      انتهى . قلت : فقوله : " وشربنا " مرشح لمعنى اتكأنا بأكلنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر والزهري " متكا " مشدد التاء دون همز وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون أصله متكأ كقراءة العامة وإنما خفف همزه كقولهم توضيت في توضأت ، فصار بزنة متقى . والثاني : أن يكون مفتعلا من أوكيت القربة إذا شددت فاها بالوكاء ، فالمعنى : أعتدت شيئا يشتددن عليه : إما بالاتكاء وإما [ ص: 478 ] بالقطع بالسكين ، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن وابن هرمز " متكاء " بالتشديد والمد ، وهي كقراءة العامة إلا أنه أشبع الفتحة فتولد منها ألف كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2772 - ... ... ... ...     ومن ذم الرجال بمنتزاح



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2773 - ينباع من ذفرى غضوب جسرة      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2774 - أعوذ بالله من العقراب     الشائلات عقد الأذناب

                                                                                                                                                                                                                                      أي : بمنتزح وينبع والعقرب الشائلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب " متكا " بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد الله ومعاذ ، إلا أنهما فتحا الميم . والمتك بالضم والفتح الأترج ، ويقال الأترنج لغتان ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      2775 - فأهدت متكة لبني أبيها     تخب بها العثمثمة الوقاح

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 479 ] وقيل : بل هو اسم لجميع ما يقطع بالسكين كالأترج وغيره من الفواكه ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      2776 - نشرب الإثم بالصواع جهارا     وترى المتك بيننا مستعارا

                                                                                                                                                                                                                                      قيل : وهو من متك بمعنى بتك الشيء ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلا من الباء وهو بدل مطرد في لغة قوم ، واحتمل أن يكون من مادة أخرى وافقت هذه . وقيل : بالضم العسل الخالص عند الخليل ، والأترج عند الأصمعي . ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ، أعني ضم الميم وفتحها وكسرها قال : وهو الشراب الخالص .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال المفضل : هو بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كندة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : لهن متكأ : إما أن يريد كل واحدة متكأ ، ويدل له قوله : وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وإما أن يريد الجنس .

                                                                                                                                                                                                                                      والسكين يذكر ويؤنث ، قاله الكسائي والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنيثه . والسكينة فعيلة من السكون . وقال الراغب : " سمي به لإزالته حركة المذبوح " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أكبرنه الظاهر أن الهاء ضمير يوسف . ومعنى أكبرنه عظمنه ودهشن من حسنه . وقيل : هي هاء السكت . قال الزمخشري : " وقيل : أكبرن بمعنى " حضن " والهاء للسكت ، يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته : دخلت في الكبر ؛ لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى الكبر ، [ ص: 480 ] وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2777 - خف الله واستر ذا الجمال ببرقع     فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

                                                                                                                                                                                                                                      انتهى . وكون الهاء للسكت يرده ضم الهاء ، ولو كانت للسكت لسكنت وقد يقال : إنه أجراها مجرى هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها . قال الشيخ : " وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت ؛ إذ لو كانت هاء السكت وكان من إجراء الوصل مجرى الوقف لم يضم الهاء " . قلت : وهاء السكت تحرك بحركة هاء الضمير إجراء لها مجراها ، وقد حققت هذا في الأنعام ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      2778 - واحر قلباه ممن قلبه شبم      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      فإنه روي بضم الهاء في " قلبها " وجعلوها هاء سكت . ويمكن أن يكون " أكبرن " بمعنى حضن ولا تكون الهاء للسكت ، بل تجعل ضمير المصدر المدلول عليه بفعله أي : أكبرن الإكبار ، وأنشدوا على أن الإكبار بمعنى الحيض قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2779 - يأتي النساء على أطهارهن ولا     يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا

                                                                                                                                                                                                                                      قال الطبري : " البيت مصنوع " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 481 ] قوله : حاش لله " حاشى " عدها النحويون من الأدوات المترددة بين الحرفية والفعلية فإن جرت فهي حرف ، وإن نصبت فهي فعل ، وهي من أدوات الاستثناء ولم يعرف سيبويه فعليتها وعرفها غيره ، وحكوا عن العرب " غفر الله لي ولمن سمع دعائي حاشى الشيطان وابن الأصبغ " بالنصب ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      2780 - حشى رهط النبي فإن منهم     بحورا لا تكدرها الدلاء

                                                                                                                                                                                                                                      بنصب " رهط " . و " حشى " لغة في حاشى كما سيأتي . وقال الزمخشري : " حاشى كلمة تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول : أساء القوم حاشى زيد قال :


                                                                                                                                                                                                                                      2781 - حاشى أبي ثوبان إن به     ضنا عن الملحاة والشتم

                                                                                                                                                                                                                                      وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشى الله : براءة الله وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعود " . قال الشيخ : " وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرق بين قولك : " قام القوم إلا زيدا " و " قام القوم حاشى زيد " ، ولما مثل بقوله : " [ ص: 482 ] أساء القوم حاشى زيد " وفهم هو من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة جعل ذلك مستفادا منها في كل موضع ، وأما ما أنشده من قوله : حاشا أبي ثوبان ، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثر النحاة ، وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر وهما من بيتين ، وهما :


                                                                                                                                                                                                                                      2782 - حاشى أبي ثوبان إن أبا     ثوبان ليس ببكمة فدم
                                                                                                                                                                                                                                      عمرو بن عبد الله إن به     ضنا عن الملحاة والشتم

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قوله " إن المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنهم غالب فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولما ذكروا مع أدوات الاستثناء " ليس " و " لا يكون " و " غير " لم يذكروا معانيها ، إذ مرادهم مساواتها ل " إلا " في الإخراج وذلك لا يمنع من زيادة معنى في تلك الأدوات .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعين فعليتها إذا وقع بعدها حرف جر كالآية الكريمة ، قالوا لأن حرف الجر لا يدخل على مثله إلا تأكيدا كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2783 - ... ... ... ...     ولا للما بهم أبدا دواء

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 483 ] وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2784 - فأصبحن لا يسألنني عن بما به      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      فتعين أن تكون فعلا ، فاعله ضمير يوسف أي : حاشى يوسف ، و " لله " جار ومجرور متعلق بالفعل قبله ، واللام تفيد العلة أي : حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به لطاعة الله ولمكانه منه أو لترفيع الله أن يرمى بما رمته به ، أي : جانب المعصية لأجل الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب الناس عن ذلك بأن حاشى في الآية الكريمة ليست حرفا ولا فعلا ، وإنما هي اسم مصدر بدل من اللفظة بفعله كأنه قيل : تنزيها لله وبراءة له ، وإنما لم ينون مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : من عن يمينه فجعلوا " عن " اسما ولم يعربوه ، وقالوا " من عليه " فلم يثبتوا ألفه مع المضمر ، بل أبقوا " عن " على بنائه ، وقلبوا ألف " على " مع المضمر ، مراعاة لأصلها ، كذا أجاب الزمخشري ، وتابعه الشيخ ولم يعز له الجواب . وفيه نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      أما قوله : " مراعاة لأصله " فيقتضي أنه نقل من الحرفية إلى الاسمية ، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام ، يعني أنهم يسمون الشخص بالحرف ، ولهم في ذلك مذهبان : الإعراب والحكاية ، أما أنهم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسما فهذا غير معروف . وأما استشهاده ب " عن " و " على " فلا يفيده ذلك ؛ لأن " عن " حال كونها اسما إنما بنيت لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين لا أنها باقية على بنائها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قلب ألف " [ ص: 484 ] على " مع الضمير فلا دلالة فيه لأنا عهدنا ذلك فيما هو ثابت الاسمية بالاتفاق كـ " لدى " .

                                                                                                                                                                                                                                      والأولى أن يقال : الذي يظهر في الجواب عن قراءة العامة أنها اسم منصوب كما تقدم تقريره ، ويدل عليه قراءة أبي السمال " حاشا لله " منصوبا ، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفا كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرة تقدم منها جملة وسيمر بك مثلها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل في الجواب عن ذلك : بل بنيت " حاشا " في حال اسميتها لشبهها بـ " حاشا " في حال حرفيتها لفظا ومعنى ، كما بنيت " عن " و " على " لما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم : إن اللام زائدة . وهذا ضعيف جدا بابه الشعر . واستدل المبرد وأتباعه على فعليتها بمجيء المضارع منها . قال النابغة الذبياني :


                                                                                                                                                                                                                                      2785 - ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه     ولا أحاشي من الأقوام من أحد

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : وتصرف الكلمة من الماضي إلى المستقبل دليل فعليتها لا محالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأن ذلك مأخوذ من لفظ الحرف كما قالوا : " سوفت بزيد " و " لوليت له " ، أي : قلت له : سوف أفعل . وقلت له : لو كان ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتمل .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن رجح جانب الفعلية أبو علي الفارسي قال : " لا تخلو " حاش " [ ص: 485 ] في قوله : " حاش لله " من أن تكون الحرف الجار في الاستثناء ، أو تكون فعلا على فاعل ، ولا يجوز أن تكون الحرف الجار لأنه لا يدخل على مثله ، ولأن الحروف لا يحذف منها إذ لم يكن فيها تضعيف ، فثبت أنه فاعل من الحشا الذي يراد به الناحية ، والمعنى : أنه صار في حشا ، أي في ناحية ، وفاعل " حاش " " يوسف " والتقدير : بعد من هذا الأمر لله ، أي : لخوفه " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " حرف الجر لا يدخل على مثله " مسلم ، ولكن ليس هو هنا حرف جر كما تقدم تقريره . وقوله : " لا يحذف من الحرف إلا إذا كان مضعفا " ممنوع ، ويدل له قولهم " من " في " منذ " إذا جر بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيف . قالوا : ويدل على أن أصلها " منذ " بالنون تصغيرها على " منيذ " وهذا مقرر في بابه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمرو وحده " حاشى " بألفين : ألف بعد الحاء ، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلا ، وبحذفها وقفا إتباعا للرسم كما سننبه عليه . والباقون بحذف الألف الأخيرة وصلا ووقفا .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما قراءة أبي عمرو فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها . وأما الباقون فإنهم اتبعوا في ذلك الرسم ولما طال اللفظ حسن تخفيفه بالحذف ولا سيما على قول من يدعي فعليتها ، كالفارسي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الفارسي : " وأما حذف الألف فعلى " لم يك " و " لا أدر " و " أصاب الناس جهد ، ولو تر أهل مكة " ، و [قوله] :


                                                                                                                                                                                                                                      2786 - وصاني العجاج فيما وصني      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 486 ] في شعر رؤبة ، يريد : لم يكن ، ولا أدري ، ولو ترى ، ووصاني . وقال أبو عبيد : " رأيتها في الذي يقال : إنه الإمام مصحف عثمان رضي الله عنه : " حاش لله " بغير ألف ، والأخرى " مثلها " . وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد الله كذلك ، قالوا : فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي ترجح هذه القراءة ، ولأن عليها ستة من السبعة ، ونقل الفراء أن الإتمام لغة بعض العرب ، والحذف لغة أهل الحجاز قال : " ومن العرب من يقول : " حشى زيد " أراد حشى لزيد " . فقد نقل الفراء أن اللغات الثلاث مسموعة ، ولكن لغة الحجاز مرجحة عندهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش في طائفة " حشى لله " بحذف الألفين وقد تقدم أن الفراء حكاها لغة عن بعض العرب ، وعليه قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2787 - حشى رهط النبي      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      البيت . وقرأ أبي وعبد الله " حاشى الله " بجر الجلالة ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن تكون اسما مضافا للجلالة [نحو : " سبحان الله " وهو اختيار الزمخشري . الثاني : أنه حرف استثناء جر به ما بعده ، وإليه ذهب الفارسي ، ] وفي جعله " حاشى " حرف جر مرادا به الاستثناء نظر ، [ ص: 487 ] إذ لم يتقدم في الكلام شيء يستثنى منه الاسم المعظم بخلاف " قام القوم حاشى زيد " .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن النحويين لما ذكروا هذا الحرف جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية ، عند من أثبت فعليته ، وجعله في ذلك كخلا وعدا ، عند من أثبت حرفية " عدا " ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية والفعلية والحرفية ، كما فعلوا ذلك في " على " فقالوا : يكون حرف جر في " عليك " ، واسما في قوله : " من عليه " ، وفعلا في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2788 - علا زيدنا يوم النقا      ... ... ... ...

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان فيه نظر ذكرته مستوفى في غير هذا المكان ، ملخصه أن " على " حال كونها فعلا غير " على " حال كونها غير فعل ، بدليل أن ألف الفعلية منقلبة عن واو ، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذينك . وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا فيقول : لو كانت " حاشى " في قراءة العامة اسما لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية والفعلية ، فلما لم يذكروه دل على عدم اسميتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن " حاش " بسكون الشين وصلا ووقفا كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف . ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : " حاشى الإله " قال : " محذوفا من حاشى " يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة ، ويدل على ذلك ما صرح به صاحب " اللوامح " فإنه قال : " بحذف الألف " ثم قال : وهذا يدل [ ص: 488 ] على أنه حرف جر يجر ما بعده ، فأما " الإله " فإنه فكه عن الإدغام ، وهو مصدر أقيم مقام المفعول ، ومعناه المعبود ، وحذفت الألف من " حاشى " للتخفيف "

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب " اللوامح " من أن الألف في " حاشى " في قراءة الحسن محذوفة الألف لا يتعين ، إلا إن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين ؛ إذا الأصل : " حاشى الإله " ثم نقل فحذف الهمزة وحرك اللام بحركتها ، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في " يخشى الإله " ، ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، ويستأنس له بأنه سكن الشين في الرواية الأخرى عنه ، فلما جيء بشيء يحتمل ينبغي أن يحمل على ما صرح به . وقول صاحب " اللوامح " : " وهذا يدل على أنه حرف جر يجر به ما بعده " لا يصح لما تقدم من أنه لو كان حرف جر لكان مستثنى به ولم يتقدم ما يستثنى منه بمجروره .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن اللام الداخلة على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان ، كهي في " سقيا لك ورعيا لزيد " عند الجمهور ، وأما عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس " حاشى " لأنها فعل صريح عندهما ، وقد تقدم أن بعضهم ادعى زيادتها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ما هذا بشرا العامة على إعمال " ما " على اللغة الحجازية ، [ ص: 489 ] وهي اللغة الفصحى ، ولغة تميم الإهمال ، وقد تقدم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدته عليه من قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2789 - وأنا النذير بحرة مسودة      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      البيتين . ونقل ابن عطية أنه لم يقرأ أحد إلا بلغة الحجاز . وقال الزمخشري : " ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ " بشر " بالرفع وهي قراءة ابن مسعود " . قلت : فادعاء ابن عطية أنه لم يقرأ به غير مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة " بشرا " بفتح الباء على أنها كلمة واحدة . وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي " بشرى " بكسر الباء ، وهي باء الجر دخلت على " شرى " فهما كلمتان جار ومجرور ، وفيها تأويلات ، أحدهما : ما هذا بمشترى ، فوضع المصدر موضع المفعول به كضرب الأمير . الثاني : ما هذا بمباع ، فهو أيضا مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : ما هذا بثمن ، يعنين أنه أرفع من أن يجرى عليه شيء من هذه الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه " إلا ملك " بكسر اللام واحد الملوك ، نفوا عنه ذل المماليك وأثبتوا له عز الملوك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 490 ] وذكر ابن عطية كسر اللام عن الحسن وأبي الحويرث . وقال أبو البقاء : " وعلى هذا قرئ " ملك " بكسر اللام " كأنه فهم أن من قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضا للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشري هذه القراءة مع كسر الباء البتة ، بل يفهم من كلامه أنه لم يطلع عليها فإنه قال : " وقرئ ، ما هذا بشرى أي ما هو بعبد مملوك لئيم ، إن هذا إلا ملك كريم ، تقول : " هذا بشرى " أي : حاصل بشرى بمعنى يشترى ، وتقول : هذا لك بشرى أم بكرا ؟ والقراءة هي الأولى لموافقتها المصحف ومطابقة " بشر " لـ " ملك " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " لموافقتها المصحف " يعني أن الرسم " بشرا " بالألف لا بالياء ، ولو كان المعنى على " بشرى " لرسم بالياء . وقوله : " ومطابقة " دليل على أنه لم يطلع على كسر اللام عن من قرأ بكسر الباء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية