الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين

[ ص: 578 ] نفت هذه الآية أن تكون السماء والأرض بكت على قوم فرعون، فاقتضى اللفظ أن للسماء والأرض بكاء، واختلف المتأولون في معنى ذلك; فقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير رضي الله عنهم: إن الرجل المؤمن إذا مات بكى عليه من الأرض موضع عبادته أربعين صباحا، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله، قالوا: فلم يكن في قوم فرعون من هذه حاله، فهذا معنى الآية. وقال السدي وعطاء : بكاء السماء: حمرة أطرافها. وقالوا: إن السماء احمرت يوم قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكان ذلك بكاء عليه، وهذا هو معنى الآية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والمعنى الجيد في الآية أنها استعارة باهية فصيحة تتضمن تحقير أمرهم، وأنهم لم يتغير عن هلاكهم شيء، وهذا نحو قوله تعالى: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال على قراءة من قرأ: "لتزول" بكسر اللام ونصب الفعل وجعل "إن" نافية، ومثل هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينتطح فيها عنزان" فإنه يتضمن التحقير، لكن هذه الألفاظ هي بحسب ما قيلت فيه، وهو قتل المرأة الكافرة التي كانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وعظم قصة فرعون وقومه يجيء بحسبها جمال الوصف وبهاء العبارة في قوله تعالى: فما بكت عليهم السماء والأرض ، ومن نحو هذا أن يعكس قول جرير :


لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع



[ ص: 579 ] فيقال في التحقير: "مات فلان فما خشعت الجبال"، ونحو هذا، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض" ، ثم قرأ هذه الآية، وقال: "إنهما لا يبكيان على كافر" ، ومن التفخيم ببكاء المخلوقات العظام قول يزيد بن مفرغ :


الريح تبكي شجوها ...     والبرق يلمع في الغمامه



وقول الفرزدق :


فالشمس طالعة ليست بكاسفة ...     تبكي عليك نجوم الليل والقمرا



[ ص: 580 ] و"منظرين": معناه: مؤخرين وممهلين.

ثم ذكر تعالى نعمته على بني إسرائيل في إنجائهم من فرعون وقومه، والعذاب المهين: هو ذبح الأبناء والتسخير في المهن كالبنيان والحفر وغيره، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "من عذاب المهين" بسقوط التعريف بالألف واللام من "العذاب"، وقوله تعالى: من فرعون بدل من قوله تعالى: من العذاب ، و"من" بكسر الميم هي قراءة الجمهور، وروى قتادة أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرؤها "من" بفتح الميم "فرعون" برفع النون.

وقوله تعالى: على علم أي: على شيء سبق عندنا فيهم وثبت في علمنا أنه سينفذ، وقوله تعالى: على العالمين يريد: على جميع الناس، هذا على التأويل المتقدم في العلم، والمعنى: لقد اخترناها لهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم، وخصصناهم بذلك دون العالم، ويحتمل قوله تعالى: على علم أن يكون: على علم لهم وفضائل فيهم، والمعنى: اخترناهم للنبوءات والرسالات، فيكون قوله تعالى: على العالمين -في هذا التأويل- معناه: على عالم زمانهم، وذلك بدليل فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم لهم وعليهم، وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة أخرجت للناس، وقوله تعالى: وآتيناهم من الآيات لفظ جامع لمعجزات موسى عليه السلام، وللعبر التي ظهرت في قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك، ولما أنعم به على بني إسرائيل من تظليل الغمام والمن والسلوى وغير ذلك، فإن لفظ الآيات يعم جميع هذا، و"البلاء" -في هذا الموضع-: الاختبار والامتحان ، وهذا كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، و "مبين" هنا بمعنى: بين.

ثم ذكر تعالى قريشا وحكى عنهم -على جهة الإنكار لقولهم حين أنكروا فيه ما هو جائز في العقل- فقال تعالى: إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى أي: ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتنا، وما نحن بمنشرين أي: بمبعوثين، يقال: أنشر الله الميت فنشر هو، وقول قريش: فأتوا بآبائنا مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه من [ ص: 581 ] حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم مسندا في أقواله وأفعاله إلى الله تعالى وبواسطة ملك خاطبوه كما تخاطب الجماعة، وهم يريدونه وربه تعالى وملائكته. واستدعى الكفار في هذه الآية أن يحيي لهم بعض آبائهم -وسموا قصيا- لكي يسألوهم عما رأوا في آخرتهم، ولم يستقص في هذه الآية الرد عليهم لبيانه، وإثباته في غير ما آية من كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى قد جزم البعث من القبور في أجل مسمى لا يتعداه أحد، وقد بينت الأمثلة من الأرض الميتة وحال النبات أمر البعث من القبور.

التالي السابق


الخدمات العلمية