الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون كانت السورة من أولها إلى هنا في قصة غزوة بدر الكبرى ، إلا أنها افتتحت بعد براعة المطلع - وهو السؤال عن الغنائم - بالمقصد من الدين ، وهو الإيمان وطاعة الله ورسوله ووصف الإيمان الكامل ، وانتقل منها إلى مقدمات الغزوة ، وما كان من عناية الله فيها بالمؤمنين ، ثم انتقل هنا أو فيما قبله إلى نداء المؤمنين المرة بعد المرة ، وتوجيه الأوامر والنواهي إليهم في مقاصد الإسلام والإيمان والإحسان - وينتهي هذا بالآية 29 ثم ينتقل من ذلك إلى شئون الكفار مع المؤمنين وعداوتهم لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم وكيدهم له وعدوانهم عليه ، وفتنة المؤمنين به - ومنه إلى الأمر بقتالهم وحكمته ، ثم يعود الكلام إلى غزوة بدر ، وما كان فيها من حكم وسنن وأحكام وتشريع ، وهذا يدخل في أول الجزء العاشر وهو آية واعلموا أنما غنمتم من شيء ( 41 ) إلخ .

                          قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ذكرت هذه الطاعة في الآية الأولى من هذه السورة ، وأعيدت هنا ليعطف عليها قوله : ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون أي: ولا تتولوا وتعرضوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والحال أنكم تسمعون منه كلام الله المصرح بوجوب طاعته وموالاته واتباعه ونصره ، والمراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق والإذعان ، الذي هو شأن المؤمنين الذين دأبهم أن يقولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( 2 : 285 ) والموصوفين بقوله عز وجل : فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ( 39 : 17 ، 18 ) [ ص: 521 ] ثم قرر هذا المعنى وبين مقابله بقوله : ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون وهم فريقان : ( الأول ) الكفار المعاندون من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 4 : 46 ) وأمثالهم من الكفار المعاندين والمقلدين ، وورد فيهم آيات سيذكر بعضها هنا . ( الثاني ) المنافقون الذين قال تعالى في بعضهم : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ( 47 : 16 ) وتقدم في سورة الأعراف من صفات أهل النار في الدنيا : ولهم آذان لا يسمعون بها ( 7 : 179 ) مع آيات أخرى ، والمراد في هذا كله أنهم لا يسمعون سماع تفقه واعتبار يتبعه الانتفاع والعمل .

                          ثم علل الأمر والنهي بقوله : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون الدواب جمع دابة ، وهي كل ما يدب على الأرض ، قال في سورة النور : والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ( 24 : 45 ) الآية ، وقلما يستعمل هذا اللفظ في الإنسان وحده ، وإنما يغلب في الحشرات ودواب الركوب ، فإن كان قديما فهو هنا يشعر بالاحتقار .

                          والمعنى أن شر ما يدب على الأرض في حكم الله الحق هم الأشرار من البشر " الصم " الذين لا يلقون السمع لمعرفة الحق والاعتبار بالموعظة الحسنة ، فكانوا بفقد منفعة السمع كالذين فقدوا حاسته " البكم " الذين لا يقولون الحق ، كأنهم فقدوا قوة النطق . " الذين لا يعقلون " أي فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل . ويفرق بين الخير والشر ، إذ لو عقلوا لطلبوا ، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا ، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا ، وتذكروا وذكروا ، كما قال تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( 50 : 37 ) فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق كالفاقدين لهذه المشاعر والقوى ، بأن خلقوا خداجا أو طرأت عليهم آفات ذهبت بمشاعرهم الظاهرة والباطنة ، بل هم شر من هؤلاء ; لأن هذه المشاعر والقوى خلقت لهم فأفسدوها على أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله تعالى لأجله في سن التمييز ثم التكليف . فهم كما قال الشاعر :


                          خلقوا وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا     رزقوا وما رزقوا سماح يد
                          فكأنهم رزقوا وما رزقوا

                          وإذا أردت فهم الآية فهما تفصيليا فارجع إلى تفسيرنا لقوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ( 7 : 179 ) ولم يصفهم هنا بالعمى كما [ ص: 522 ] وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة ; لأن المقام هنا مقام التعريض بالذين ردوا دعوة الإسلام ، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن .

                          ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم أي: ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهدى ببقية من نور الفطرة ، لم تطفئها مفاسد التربية وسوء القدوة ، لأسمعهم بتوفيقه وعنايته الكتاب والحكمة سماع تفقه وتدبر ، ولكنه علم أنه لا خير فيهم; لأنهم ممن أحاطت بهم خطاياهم ، وختم على قلوبهم ولو أسمعهم وقد علم أن لا خير فيهم ( لتولوا ) عن القبول والإذعان لما فهموا وهم معرضون والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به - كما هو مدلول الجملة الحالية - كراهة وعنادا للداعي إليه ولأهله ، لا توليا عارضا مؤقتا ، وفرق عظيم بين التولي العارض لصارف مؤقت ، وتولي الإعراض والكراهة الذي فقد صاحبه الاستعداد للحق ، وقبول الخير فقدا تاما ، ومن اضطرب في فهم الجمع بين التولي والإعراض فقد جهل معنى الجملة الحالية الفارق بينها وبين الحال المفردة كما بينه الإمام عبد القاهر في دلائل الإعجاز ، والآية نص في أنه تعالى لم يسمعهم ، أي لم يوفقهم للسماع النافع ; لأن الباعث عليه هو ما في الفطرة من نور الحق المحبب للنفس في الخير ، وقد فقدوا ذلك بإفسادهم لفطرتهم ، وإطفائهم لنور الاستعداد للحق والخير الذي يذكيه سماع الحكمة والموعظة الحسنة ، فصاروا ممن وصفهم في سورة المطففين بقوله : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 83 : 14 ) وقوله في سورة البقرة : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 2 : 81 ) ووصفهم فيها بقوله : صم بكم عمي فهم لا يرجعون ( 2 : 18 ) وضرب المثل لسماعهم بقوله في الآية الأخرى منها : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ( 2 : 171 ) يعني أنهم كسارحة النعم تسمع الصراخ الناعق فترفع رءوسها ، ولكنها لا تفهم له معنى ، فإذا سكت عادت إلى رعيها كما قال ابن دريد في مقصورته :


                          نحن ولا كفران لله كما     قد قيل في السارب أخلى فارتعى
                          إذا أحس نبأة ريع وإن     تطامنت عنه تمادى ولها

                          وفي الآيتين 42 و43 من سورة يونس ( 10 ) إيئاس النبي صلى الله عليه وسلم من إسماع هؤلاء الصم ، وهداية هؤلاء العمي ، وقفى على ذلك بقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( 10 : 44 ) فأمثال هذه الآيات تحثو التراب في في من يزعم أن الآية تدل على الجبر وعدم اختيار العبد في كفره وإيمانه ، كما أنها تسجل الجهل باللغة على من يزعم أن فيها إشكالا في النظم بجواز تقدير : ولو أسمعهم لعلمه بأن فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون عن الإيمان والهدى ، ونقول : إن تقديره هذا هو الباطل; لأنه نقيض ما أفادته [ ص: 523 ] " لو " من أنه علم أنه لا خير فيهم فهو لا ينتج إلا باطلا ، وعفا الله عمن صوروا هذا الإشكال الوهمي بالاصطلاح المنطقي الفلسفي وأطالوا في الرد عليه من تلك الطرق الاصطلاحية الشاغلة عن كتاب الله تعالى .

                          ألم يك خيرا لهم من هذه الحذلقة اللفظية الصارفة عن القرآن ، توجيه قلب سامعه لمحاسبة نفسه على هذا السماع ، ودرجة حظه منه ؟ فإن للسماع درجات باعتبار ما يطالبه الله تعالى من الاهتداء بكتابه : أسفلها أن يتعمد من يتلى عليه القرآن ألا يسمعه مبارزة له بالعداوة من أول وهلة ، خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم عليها كالذين قال الله فيهم : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( 41 : 26 ) ويليها من يستمع وهو لا ينوي أن يفهم ويعلم كالمنافقين المشار إليهم في آية القتال ( 47 : 16 ) وذكرت في هذا السياق - ويليها من يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض ، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب ، وكما يفعل في كل وقت مرتزقة دعاة النصرانية وغيرهم إذا استمعوا للقرآن أو نظروا فيه - ويليها أن يسمع ليفهم ، ويعلم ثم يحكم للكلام أو عليه .

                          وهذه الدرجات كلها لغير المؤمنين به ، والمنصف منهم الفريق الأخير ، وكم آمن منهم من تأمل وفهم . نظر طبيب إفرنسي معاصر في ترجمة القرآن فرأى أن كل ما يتعلق بالطب والمحافظة على الصحة منه - كالطهارة والاعتدال وعدم الإسراف - موافق لأحدث المسائل التي استقر عليها رأي الأطباء في هذا العصر ، فرغبه ذلك في تأمله كله فأسلم . ونظر ( مستر براون ) وهو ربان بارج من الإنكليز في ترجمة مستر سايل الإنكليزية له فاستقصى فيه الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أكبر رباني الملاحين ، فسأل عنه فقيل له : إنه لم ير البحر قط ، وكان مع ذلك أميا لم يقرأ كتابا ، ولا تلقى عن أحد درسا ، ( قال ) : فعلمت أن هذا كان بوحي من الله ; لأنه حقائق لم يعلمها من اختباره بنفسه ، ولا بتلقيه عن غيره من المختبرين ، وقد أسلم وتعلم العربية رحمه الله تعالى .

                          وأما المسلمون في هذه البلاد فأكثرهم اليوم يسمعون القارئ يتلو القرآن فلا يستمعون له ، ولا يشعرون بأنهم في حاجة إلى سماعه ، وأكثر الذين يستمعون له وينصتون يقصدون بذلك التلذذ بتجويده ، وتوقيع التلاوة على قواعد النغمات ، ومنهم من يقصد بسماعه التبرك فقط ، ومنهم من يحضر الحفاظ لتلاوته عنده في ليالي رمضان; لأن ذلك من شعائر أكابر الوجهاء ، وإنما تكون التلاوة في حجرة البواب أو غيره من الخدم ، وإذا سمعت بعض السامعين للتلاوة يقول : الله الله ، أو غير ذلك من كلمة مفردة أو مركبة أو صوت لا معنى له فإنما ينطق به إعجابا بنغمة التالي ، حتى إنهم لينطقون عند سماعه ببعض الأصوات التي تخرج من أفواههم عند سماع الغناء .

                          [ ص: 524 ] دعيت مرة إلى حفلة عرس فإذا أنا بقارئ يتلو بالنغم والتطريب ، وبعض الحاضرين يهتز وينطق بتلك الحروف المعتادة في مجالس الغناء ، ويستعيدون بعض الجمل أو الآيات كما يستعيدون المغنى على سواء ، وكان القارئ يتلو تلك الوصايا الصادعة من سورة الإسراء ، وما يتلوها من وصف القرآن وهدايته ومواعظه ، وتوبيخ المعرضين عنه كقوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ( 17 : 41 ) إلى قوله : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 17 : 45 ، 47 ) .

                          فلما سمعت مكاء أولئك السفهاء وأصواتهم المنكرة عند سماع هذه الحكم الروائع والمواعظ الصوادع ، لم أملك نفسي أن صحت فيهم صيحة مزعجة ، ووقفت على الكرسي الذي كنت جالسا عليه ووبختهم توبيخا شديدا ، مبينا لهم ما يجب من الأدب والخشوع والخشية عند سماع القرآن ، ولا سيما أمثال هذه الآيات ، وتلوت عليهم قوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ( 59 : 21 ) فسكنوا وسكتوا إلا واحدا منهم أخذته العزة بالإثم ، ولكنه صار يتظاهر بأنه يهتز متخشعا ، ويهمهم معتبرا متدبرا .

                          وليعلم القارئ أن لفهم الكلام نفسه درجات ، فمن الناس من لا يفهم من الكلام إلا مدلولات الألفاظ على ما فيها من إجمال وإبهام بحسب ما تفسر به المفردات في معاجم اللغة ، أو مع المركبات بحسب قواعد النحو والبيان ، ككون لفظي الصم والبكم هنا من مجاز الاستعارة مثلا ، وهذا الفهم قاصر لا يتسع عقل صاحبه للتدبر والتذكر المطلوب ، ومنهم من يكون فهمه تفصيليا ينتقل من الكليات إلى الجزئيات ، ويعدو المفهومات الذهنية إلى الماصدقات ، ولكنه يجعلها بمعزل عن نفسه ، ويتصور أن الكلام كله لغيره وفي غيره ، بأن يقول : هذه الآية نزلت في الكافرين أو المنافقين ، لا في أمثالي من المؤمنين ، وإن كان متصفا بما تنهى عنه وتتوعد عليه من صفاتهم وأعمالهم ، فصاحبها يصدق عليه بوجه ما أنه من الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، وإنما الدرجة العليا للسماع أن تسمع فتفقه ، وتعقل وتتدبر فتعتبر وتعمل ، حتى لا تقول يوم القيامة : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ( 67 : 10 )

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية