الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 444 ] 20 - باب

                                لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد مكانه

                                869 911 - حدثنا محمد بن سلام، ثنا مخلد، أنا ابن جريج: سمعت نافعا يقول: سمعت ابن عمر يقول: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقيم الرجل الرجل من مقعده، ثم يجلس فيه ".

                                قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها.


                                التالي السابق


                                وقد خرجه البخاري في مواضع متعددة، وفي بعضها زيادة: " ولكن تفسحوا وتوسعوا ".

                                وخرج مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا ".

                                وخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم ".

                                وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن مقاتل بن حيان ، قال: أنزلت هذه الآية - يعني: قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا - في يوم جمعة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ في [ ص: 445 ] الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء أناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلموا عليه، ثم سلموا على القوم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسح لهم، فشق ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار - من غير أهل بدر -: " قم أنت يا فلان، وأنت يا فلان "، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- الكراهة في وجوههم، وتكلم في ذلك المنافقون، فبلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " رحم الله رجلا فسح لأخيه "، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا، فيفسح القوم لإخوانهم، ونزلت الآية يوم الجمعة.

                                فظاهر هذا: يدل على أن إقامة الجالس نسخ بهذه الآية، وانتهى الأمر إلى التفسح المذكور فيها.

                                وقال قتادة : كان هذا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن حوله خاصة.

                                يشير إلى إقامة الجالسين ليجلس غيرهم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إكراما لأهل الفضائل والاستحقاق، وغيره لا يؤمن عليه أن يفعله بالهوى.

                                ويستثنى من ذلك: الصبي، إذا كان في الصف، وجاء رجل، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، كما فعله أبي بن كعب بقيس بن عباد ، وقد ذهب إليه الثوري وأحمد ، وقد تقدم ذلك.

                                فإن كان الذي في الصف رجلا، وكان أعرابيا أو جاهلا، لم يجز تأخيره من موضعه.

                                قال أحمد : لا أرى ذلك.

                                وفي " سنن أبي داود "، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من سبق إلى ما لم [ ص: 446 ] يسبق إليه أحد فهو أحق به ".

                                واستثنى بعض الشافعية - أيضا - ثلاث صور، وهي: أن يقعد في موضع الإمام، أو طريق الناس، ويمنعهم الاجتياز، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة.

                                ويستثنى من ذلك: أن يكون المتأخر قد أرسل من يأخذ له موضعا في الصف، فإذا جاء قام الجالس وجلس الباعث فيه. وقد ذكره الشافعي وأصحابنا وغيرهم.

                                وروي عن ابن سيرين ، أنه كان يفعله.

                                وأما إن قام أحد من الصف تبرعا وآثر الداخل بمكانه، فهل يكره ذلك، أم لا؟ إن انتقل إلى مكان أفضل منه لم يكره، وإن انتقل إلى ما دونه فكرهه الشافعية.

                                وقال أحمد فيمن تأخر عن الصف الأول، وقدم أباه فيه: هو يقدر أن يبر أباه بغير هذا.

                                وظاهره: الكراهة، وأنه يكره الإيثار بالقرب.

                                وأما الموثر، فهل يكره له أن يجلس في المكان الذي أوثر به؟ فيه قولان مشهوران.

                                أشهرهما: لا يكره، وهو قول أصحابنا والشافعية وغيرهم.

                                والثاني: يكره، وكان ابن عمر لا يفعل ذلك، وكذلك أبو بكرة .

                                وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر ، قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

                                [ ص: 447 ] وخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي بكر ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- معناه - أيضا.

                                ولو بادر رجل وسبق الموثر إلى المكان، فهل هو أحق به من الموثر، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا وغيرهم.

                                وأما من فسح له في مجلس أو صف، فلا يكره له الجلوس فيه.

                                وفي مراسيل خالد بن معدان ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا جاء أحدكم إلى المجلس، فوسع له، فليجلس؛ فإنها كرامة ".

                                خرجه حميد بن زنجويه .

                                فإن كان في جلوسه تضييق على الناس، أو لم يصل إلى المكان إلا بالتخطي، فلا يفعل.

                                وقد روي عن أبي سعيد الخدري ، أنه أوذن بجنازة في قومه، فتخلف حتى جاء الناس وأخذوا المجالس، ثم جاء بعد، فلما رآه القوم توسعوا له، فقال: لا؛ إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن خير المجالس أوسعها "، ثم تنحى فجلس في مجلس واسع.

                                وخرج أبو داود منه المرفوع فقط.

                                وروى الخرائطي - بإسناد فيه جهالة - عن أبي هريرة - مرفوعا -: " لا توسع المجالس إلا لثلاثة: لذي علم لعلمه، وذي سن لسنه، وذي سلطان لسلطانه ".

                                ودخل خالد بن ثابت الفهمي المسجد يوم الجمعة، وقد امتلأ من الشمس، [ ص: 448 ] فرآه بعض من في الظل، فأشار إليه ليوسع له، فكره أن يتخطى الناس إلى ذلك الظل، وتلا: واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ثم جلس في الشمس.

                                خرجه حميد بن زنجويه .



                                الخدمات العلمية