الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      دعواهم أي دعاؤهم وهو مبتدأ وقوله تعالى شأنه: فيها متعلق به وقوله سبحانه: سبحانك اللهم خبره أي دعاؤهم هذا الكلام والدعوى وإن اشتهرت بمعنى الادعاء لكنها وردت بما ذكرنا أيضا وكون الخبر من جنس الدعاء يشهد له قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . والظاهر أن إطلاق الدعاء على ذلك مجاز وهو الذي يفهمه كلام ابن الأثير حيث قال: إنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله تعالى وجزائه وفي الحديث: إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . وجاءت بمعنى العبادة كما في قوله سبحانه: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وجوز إرادته هنا والمراد نفي التكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول وليس ذلك بعبادة وإنما يلهمونه وينطقون به تلذذا لا تكليفا ونظير ذلك قوله سبحانه: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية وفيه خفاء كما لا يخفى وقد يقال: يأتي نظير هذا في الآية على احتمال أن يراد بالدعوى الدعاء حقيقة فيكون المعنى على طرز ما قرر أنه لا سؤال لهم من الله تعالى سوى ذلك ومن المعلوم أن ذلك ليس بسؤال فيفيد أنه لا سؤال لهم أصلا

                                                                                                                                                                                                                                      والغرض من ذلك الإشارة إلى حصول جميع مقاصدهم بالفعل فليس بهم حاجة إلى سؤال شيء إلا أن فيه ما فيه ونصب سبحان على المصدرية لفعل محذوف وجوبا وهو بمعنى التسبيح وقدرت الجملة اسمية أي أنا نسبحك تسبيحا لأنها أبلغ والجمل التي بعدها كذلك و اللهم بتقدير يا ألله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم وتمام الكلام فيه وفيما قبله قد تقدم لك فتذكر وكان القياس تقديم الاسم الجليل لأن النداء يقدم على الدعاء لكنه استعمل في التسبيح كذلك قيل: لأنه تنزيه عن جميع النقائص وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب

                                                                                                                                                                                                                                      وتحيتهم أي ما يحيون به فيها سلام أي سلامتهم من كل مكروه وهو خبر (تحيتهم) و فيها متعلق بها، والتحية التكرمة بالحال الجليلة وأصلها أحياك الله تعالى حياة طيبة وإضافتها هنا إلى المفعول، والفاعل إما الله سبحانه أي تحية الله تعالى إياهم ذلك ويرشد إليه قوله عز وجل: سلام قولا من رب رحيم أو الملائكة عليهم السلام ويرشد إليه قوله سبحانه: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 76 ] وجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضا آخر ذلك وقد يعتبر البعض المقدر مفعولا فالإضافة إلى المفعول، والفاعل محذوف وقيل: يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعوله معا إذا كان المعنى يحيي بعضهم بعضا ونظيره في الإضافة إلى الفاعل والمفعول قوله تعالى: وكنا لحكمهم شاهدين حيث أضيف حكم إلى ضمير داود وسليمان عليهما السلام وهما حاكمان وغيرهما وهم المحكوم عليهم وليس ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف فيه حيث إن إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز لأنه لا خلاف في جواز الجمع إذا كان المجاز عقليا إنما الخلاف فيه إذا كان لغويا وآخر دعواهم أي خاتمة دعائهم أن الحمد لله رب العالمين 10 أي أنه الحمد لله فأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والجملة الاسمية خبرها وأن ومعمولاها خبر آخر وليست مفسرة لفقد شرطها ولا زائدة لأن الزيادة خلاف الأصل ولا داعي إليها على أنه قد قرأ ابن محيصن ومجاهد وقتادة ويعقوب بتشديدها ونصب الحمد وفي ذلك دليل لما قلنا والظاهر أن تحقق مضمون هذه الجمل لكونها اسمية على سبيل الدوام والاستمرار وفي الأخبار ما يؤيده فلعل القوم لما دخلوا الجنة حصل لهم من العلم بالله تعالى ما لم يحصل لهم قبله على اختلاف مراتبهم

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صرح مولانا شهاب الدين السهروردي في بعض رسائله في الكلام بتفاوت أهل الجنة في المعرفة فقال: إن عوام المؤمنين في الجنة يكونون في العلم كالعلماء في الدنيا والعلماء فيها يكونون كالأنبياء عليهم السلام في الدنيا والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة والسلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم، والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن وحينئذ التفاوت في معرفة الصفات وهي كما قيل إما سلبية وتسمى بصفات الجلال لأنها يقال فيها: جل عن كذا جل عن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلى وصفه بصفات الإكرام والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى وقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة كما في صحيح مسلم : (يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا) يؤيد بظاهره ذلك والمراد بالبكرة والعشية كما قال النووي قدرهما وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة على الثانية لتقدم التخلية على التحلية ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذ لا يبعد أن يكون الترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال: إنهم حين يشرعون بالدعاء يسبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهو دعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لاستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلا مانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا: إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجه إلى طلبها وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشيا كما يشير إليه خبر الصحيح ولعل [ ص: 77 ] عدم ذكر التحميد فيه اكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما اشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى: وتحيتهم فيها سلام فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا: الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وهو ظاهر في أن الترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي أيضا لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلبا لما يشتهون حينئذ أنه علامة للطلب ونظير ذلك تسبيح المصلي إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا أنهم إذا قالوا ذلك أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك نعم فيكون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين خفاء

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضا ظاهر فيكون الترتيب الذكري كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة (آخر) إلى دعواهم يأباه وكأن وجه الإباء على ما قيل: إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن اعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر ولعل الأمر في ذلك سهل

                                                                                                                                                                                                                                      وقال شيخ الإسلام: لعلهم يقولون: سبحانك اللهم عندما يعاينون من تعاجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف ويكون خاتمة دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين نعتا له تعالى شأنه بصفات الإكرام إثر نعته بصفات الجلال والمعنى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق انتهى وكأنه أراد بعدم كون التحية أجنبية على الإطلاق كونها دعاء معنى وكلامه نص في أن الترتيب الوقوعي مخالف للترتيب الذكري ولا يخفى أن توجيه توسيط ذكر التحية بما ذكره مما لا يكاد يرتضيه منصف على أنه غفل هو وسائر من وقفنا على كلامه من المفسرين عن توجيه اسمية الجمل فافهم والله تعالى أعلم

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية