الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع، كما ليس ذلك في كلام أرسطو. وفيه باطل وتناقض من وجوه:

(الوجه الأول)

أنه جعل الحركة تارة لا قوام للسماوات إلا بها، كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال: إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة [ ص: 218 ] الآمر، يعني الحركة كما ذكر أرسطو، وجعلها تارة مستغنية عنها، ولكنها كلفت بها لأجل السفليات، وأن حالها حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين، مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم، وهم غير محتاجين إليها.

الوجه الثاني

أن غاية ما في هذا أن يكون آمرا لها بالحركة، وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه، ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل، كما ذكره في أمر الملك لنوابه، وأمر القائد لجيشه. وأمر السيد لعبيده.

الوجه الثالث

أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بالحركة التي أمرت بها، فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة؟.

الوجه الرابع

أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها، وأنه لا قوام لها إلا بالحركة، فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطا في قوامها، ويكون فاعلا لشرط من شروط وجودها، ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها، ولا أبدع أعيانها.

الوجه الخامس

أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك، وأن فيها عقلا هو فوقها في الرتبة، والدليل الذي ذكره هذا، وابن سينا وغيرهما من الفلاسفة، في إثبات العقول، إنما يدل على إثبات عقول [ ص: 219 ] هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها، من جنس العقل الموجود في نفوسنا، فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها، فلا دليل لهم على ذلك أصلا. ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك، لذكرت ألفاظهم بأعيانهم، ليتبين لك ما ذكرته. ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر، والجواهر أعراضا، والصفة هي الموصوف، والموصوف هو الصفة. وعلى هذا بنوا كلامهم، كما صرحوا به في غير موضع. ومن هنا يظهر:

الوجه السادس

وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم، وجعلوا نفس العلم هو جوهرا قائما بنفسه واجب الوجود. وهذا من أعظم سفسطة في الوجود، وهو شر من كلام النصارى بكثير.

وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة، وهو العقول التي جعلوها مبادئ، أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا. ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم، لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون، كليات مجردة عن الأعيان، وهي المثل الأفلاطونية، وجعلوها أزلية أبدية، وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه، وقالوا: الكليات لا يكون [ ص: 220 ] وجودها منفكة عن الأعيان. وهؤلاء ظنوا أيضا أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضا غلط، فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات، ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم، حتى في واجب الوجود قالوا: إنه هو العلم، وإنه العالم، وأن العلم هو القدرة، فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية