الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله - : ( وإن لم يتغير نظرت ، فإن كان الماء دون القلتين ; فهو نجس ، وإن كان قلتين فصاعدا فهو طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا كان الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث } ; ولأن القليل يمكن حفظه من النجاسة في الظروف ، والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فجعل القلتان حدا فاصلا بينهما ) .

                                      [ ص: 162 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 162 ] ( الشرح ) هذا الحديث حديث حسن ثابت من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، رواه أبو عبد الله الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم وأبو عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين قال الحاكم : هو حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وجاء في رواية لأبي داود وغيره : { إذا كان الماء قلتين لم ينجس } قال البيهقي وغيره : إسناد هذه الرواية إسناد صحيح ، والخبث بفتح الخاء والباء . ومعناه هنا : لم ينجس كما جاء في الرواية الأخرى ، وقوله : قلتين فصاعدا ، معناه فأكثر وهو منصوب على الحال . وأما حكم المسألة : وهي إذا وقع في الماء الراكد نجاسة ولم تغيره ، فحكى ابن المنذر وغيره فيها سبعة مذاهب للعلماء ( أحدها ) : إن كان قلتين فأكثر لم ينجس ، وإن كان دون قلتين نجس ، وهذا مذهبنا ومذهب ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه .

                                      ( الثاني ) : أنه إن بلغ أربعين قلة لم ينجسه شيء ، حكوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومحمد بن المنكدر ( الثالث ) : إن كان كرا لم ينجسه شيء . وروي عن مسروق وابن سيرين ( والرابع ) : إذا بلغ ذنوبين لم ينجس ، روي عن ابن عباس في رواية ، وقال عكرمة : ذنوبا أو ذنوبين ( الخامس ) : إن كان أربعين دلوا لم ينجس روي عن أبي هريرة ( السادس ) : إذا كان بحيث لو حرك جانبه ، تحرك الجانب الآخر نجس ، وإلا فلا ، وهو مذهب أبي حنيفة .

                                      ( والسابع ) : [ ص: 163 ] لا ينجس كثير الماء ولا قليله إلا بالتغير ، حكوه عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصري وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجابر بن زيد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي .

                                      قال أصحابنا : وهو مذهب مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وداود ونقلوه عن أبي هريرة والنخعي ، قال ابن المنذر : وبهذا المذهب أقول ، واختاره الغزالي في الإحياء واختاره الروياني في كتابيه البحر والحلية قال في البحر : " هو اختياري واختيار جماعة رأيتهم بخراسان والعراق " وهذا المذهب أصحها بعد مذهبنا .

                                      واحتج لأبي حنيفة بأشياء ليس في شيء منها دلالة ، لكني أذكرها لبيان جوابها إن أوردت على ضعيف المرتبة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه } حديث صحيح متفق على صحته ، رواه البخاري ومسلم قالوا : وروي أن زنجيا مات في زمزم فأمر ابن عباس بنزحها ، ومعلوم أن ماء زمزم يزيد على قلتين ; ولأنه مائع ينجس بورود النجاسة عليه إذا قل ، فكذا إذا كثر كسائر المائعات ; ولأنه تيقن حصول نجاسة فيه فهو كالقليل .

                                      واحتج أصحابنا على أبي حنيفة بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } ، وفي رواية " لم ينجس " وهما صحيحان كما سبق ، وبحديث أبي سعيد الخدري في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة ، وكانت يلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض ، كما سبق بيانه في أول كتاب الطهارة وسبق : أنه حديث صحيح وهذه البئر كانت صغيرة كما سبق بيانها ، وهم لا يجيزون الوضوء من مثلها ، قال أصحاب أبي حنيفة : إنما توضأ منها ; لأنها كانت جارية ، قال الواقدي : كان يسقى منها الزرع والبساتين ، وكذا قاله الطحاوي ونقله عن الواقدي .

                                      قال أصحابنا : هذا غلط ولم تكن بئر بضاعة جارية بل كانت واقفة ; لأن العلماء ضبطوا بئر بضاعة وعرفوها في كتب مكة والمدينة ، وأن الماء لم يكن يجري ، وقد قدمنا بيان هذا في أول الكتاب عند ذكر حديث بئر بضاعة ، وذكرنا ما رواه أبو داود عن قتيبة وما وصفه هو .

                                      [ ص: 164 ] قال أصحابنا : ما نقلوه عن الواقدي مردود ; لأن الواقدي - رحمه الله - ضعيف عند أهل الحديث وغيرهم لا يحتج برواياته المتصلة ، فكيف بما يرسله أو يقوله عن نفسه ، قالوا : ولو صح أنه كان يسقى منها الزرع ، لكان معناه أنه يسقى منها بالدلو والناضح عملا بما نقله الأثبات في صفتها .

                                      قال أصحابنا : وعمدتنا حديث القلتين ، فإن قالوا : هو مضطرب ; لأن الوليد بن كثير رواه تارة عن محمد بن عباد عن جعفر ، وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وروي تارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه ، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وهذا اضطراب ثان . فالجواب : أن هذا ليس اضطرابا ، بل رواه محمد بن عباد ومحمد بن جعفر وهما ثقتان معروفان ، ورواه أيضا عبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر عن أبيهما ، وهما أيضا ثقتان ، وليس هذا من الاضطراب ، وبهذا الجواب أجاب أصحابنا وجماعات من حفاظ الحديث ، وقد جمع البيهقي طرقه وبين رواية المحمدين وعبد الله وعبيد الله ، وذكر طرق ذلك كله وبينها أحسن بيان ، ثم قال : فالحديث محفوظ عن عبد الله وعبيد الله ، قال : وكذا كان شيخنا أبو عبد الله الحافظ الحاكم يقول : الحديث محفوظ عنهما وكلاهما رواه عن أبيه ، قال : وإلى هذا ذهب كثير من أهل الرواية ، وكان إسحاق بن راهويه يقول : غلط أبو أسامة في عبد الله بن عبد الله إنما هو عبيد الله بن عبد الله بالتصغير .

                                      وأطنب البيهقي في تصحيح الحديث بدلائله فحصل أنه غير مضطرب ، قال الخطابي : ويكفي شاهدا على صحته أن نجوم أهل الحديث صححوه وقالوا به واعتمدوه في تحديد الماء ، وهم القدوة وعليهما المعول في هذا الباب .

                                      فممن ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ومحمد بن إسحاق وابن خزيمة وغيرهم .

                                      ( قلت ) : وقد سلم أبو جعفر الطحاوي إمام أصحاب أبي حنيفة في الحديث والذاب عنهم بصحة هذا الحديث ، لكنه دفعه واعتذر عنه بما ليس بدافع ولا عذر فقال : هو حديث صحيح لكن تركناه ; لأنه روى قلتين أو ثلاثا ; ولأنا لا نعلم قدر القلتين فأجاب أصحابنا : بأن الرواية الصحيحة المعروفة المشهورة قلتين ، ورواية الشك شاذة غريبة فهي متروكة فوجودها كعدمها .

                                      وأما قولهم : [ ص: 165 ] لا نعلم قدر القلتين فالمراد : قلال هجر كما رواه ابن جريج ، وقلال هجر كانت معروفة عندهم مشهورة يدل عليه حديث أبي ذر في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن ليلة الإسراء فقال : { رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر } فعلم بهذا : أن القلال معلومة عندهم مشهورة ، وكيف يظن أنه صلى الله عليه وسلم يحدد لهم أو يمثل بما لا يعلمونه ولا يهتدون إليه ؟ فإن قالوا : روي أربعين قلة ، وروي أربعين غربا ، وهذا يخالف حديث القلتين فالجواب : أن هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل أربعين قلة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأربعين غربا أي دلوا عن أبي هريرة كما سبق ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره ، فهذا ما نعتمده في الجواب .

                                      وأجاب أصحابنا أيضا : بأنه ليس مخالفا ، بل يحمل ، على أن تلك الأربعين صغار تبلغ قلتين بقلال هجر فقط ، فإن قالوا : يحمل على الجاري فالجواب : أن الحديث عام يتناول الجاري والراكد ، فلا يصح تخصيصه بلا دليل ; ولأن توقيته بقلتين يمنع حمله على الجاري عندهم ، فإن قالوا : لا يصح التمسك به ; لأنه متروك بالإجماع في المتغير بنجاسة ، فالجواب : أنه عام خص في بعضه ، فبقي الباقي على عمومه كما هو المختار في الأصول ، فإن قالوا : قد روى ابن علية هذا الحديث موقوفا على ابن عمر ، فالجواب : أنه صح موصولا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق الثقات ، فلا يضر تفرد واحد لم يحفظه توقفه ، وقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن يحيى بن معين إمام هذا الشأن : أنه سئل عن هذا الحديث فقال : جيد الإسناد ، قيل له : فإن ابن علية لم يدفعه ، قال يحيى : وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد .

                                      فإن قالوا : إنما لم يحمل خبثا لضعفه عنه وهذا يدل على نجاسته ، فالجواب : ما قال أصحابنا وأهل الحديث وغيرهم إن هذا جهل بمعاني الكلام وبطرق الحديث ، أما جهل قائله بطرق الحديث ففي رواية صحيحة لأبي داود : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } وقد سبق بيانها ، فإذا ثبتت هذه الرواية تعين حمل الأخرى عليها وأن معنى : " لم يحمل خبثا " : لم [ ص: 166 ] ينجس ، وقد قال العلماء : أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك الحديث ، وأما جهله بمعاني الكلام فبيانه من وجهين ( أحدهما ) : أنه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين حدا ، فلو كان كما زعم هذا القائل لكان التقييد بذلك باطلا ، فإن ما دون القلتين يساوي القلتين في هذا ( والثاني ) : أن الحمل ضربان حمل جسم وحمل معنى ، فإذا قيل في حمل الجسم : فلان لا يحمل الخشبة مثلا فمعناه : لا يطيق ذلك لثقله ، وإذا قيل في حمل المعنى : فلان لا يحمل الضيم فمعناه : لا يقبله ولا يلتزمه ولا يصبر عليه ; قال الله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } معناه : لم يقبلوا أحكامها ولم يلتزموها ، والماء من هذا الضرب ، لا يتشكك في هذا من له أدنى فهم ومعرفة والله أعلم .

                                      واحتج أصحابنا من جهة الاعتبار والاستدلال بأشياء ( أحدها ) وهو العمدة على ما قاله الشيخ أبو حامد : أن الأصول مبنية على أن النجاسة إذا صعبت إزالتها ، وشق الاحتراز منها عفي عنها كدم البراغيث ، وموضع النجو وسلس البول والاستحاضة ، وإذا لم يشق الاحتراز لم يعف كغير الدم من النجاسات ومعلوم : أن قليل الماء لا يشق حفظه ، وكثيره يشق ، فعفي عما شق دون غيره ، وضبط الشرع حد القلة بقلتين فتعين اعتماده ، ولا يجوز لمن بلغه الحديث العدول عنه .

                                      قال أصحابنا : ولهذا ينجس المائع ، وإن كثر بملاقاة النجاسة ; لأنه لا مشقة في حفظه والعادة جارية به وذكروا دلائل كثيرة وفيما ذكرناه كفاية . والجواب عما احتجوا به من حديث : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه } من وجهين ( أحدهما ) : أنه عام مخصوص بحديث القلتين ( والثاني ) وهو الأظهر : أنه نهي تنزيه فيكره كراهة شديدة ولا يحرم . وسبب الكراهة : الاستقذار لا النجاسة ; ولأنه يؤدي إلى كثرة البول وتغير الماء به ، وأما قولهم : إن زنجيا مات في زمزم فنزحها ابن عباس فجوابه من ثلاثة [ ص: 167 ] أوجه أجاب بها الشافعي ثم الأصحاب أحسنها : أن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له ، قال الشافعي : لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا فقالوا : ما سمعنا هذا . وروى البيهقي وغيره عن سفيان بن عيينة إمام أهل مكة قال : إنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر أحدا ، لا صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي يقولونه ، وما سمعت أحدا يقول : نزحت زمزم ، فهذا سفيان كبير أهل مكة قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم ، فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة لا سيما أصحاب ابن عباس وحاضروها ؟ وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة ؟ وقد روى البيهقي هذا عن ابن عباس من أوجه كلها ضعيفة لا يلتفت إليها .

                                      ( الثاني ) : لو صح لحمل على أن دمه غلب على الماء فغيره ( الثالث ) : فعله استحبابا وتنظفا ، فإن النفس تعافه والمشهور عن ابن عباس : أن الماء لا يتنجس إلا بالتغير كما نقله ابن المنذر وغيره ، وقد سبق بيانه ، وأما قياسهم على المائع فجوابه من أوجه ( أحدها ) : أنه قياس يخالف السنة فلا يلتفت إليه ( الثاني ) : أنه لا يشق حفظ المائع وإن كثر ، بل العادة حفظه وقد سبق بيان هذا ( الثالث ) : أن للماء قوة في دفع النجس بالإجماع وهو إذا كان بحيث لا يتحرك طرفه الآخر بخلاف المائع ( الرابع ) : للماء قوة رفع الحدث فكذا له دفع النجس بخلاف المائع ، وأما قياسهم على الماء القليل فجوابه ظاهر مما ذكرناه .

                                      قال أصحابنا : اعتبروا حدا واعتبرنا حدا ، وحدنا ما حده رسول الله الذي أوجب الله تعالى طاعته وحرم مخالفته ، وحدهم مخالف حده صلى الله عليه وسلم مع أنه حد بما لا أصل له ، وهو أيضا حد لا ضبط فيه فإنه يختلف بضيق موضع الماء وسعته ، وقد يضيق موضع الماء الكثير لعمقه ويتسع موضع القليل لعدم عمقه ، فهذا ما يتعلق بالخلاف بيننا وبين أبي حنيفة - رحمه الله - .

                                      وأما مالك وموافقوه فاحتج لهم بقوله : صلى الله عليه وسلم { الماء طهور لا ينجسه شيء } وهو حديث صحيح كما سبق وبالقياس على القلتين ، وعلى ما إذا ورد الماء على النجاسة . [ ص: 168 ] واحتج أصحابنا عليهم بحديث القلتين ، وقد وافقنا مالك - رحمه الله - على القول بدليل الخطاب وبحديث أبي هريرة : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ، فإنه لا يدري أين باتت يده } رواه البخاري ومسلم فنهاه صلى الله عليه وسلم عن غمس يده وعلله بخشية النجاسة ، ويعلم بالضرورة : أن النجاسة التي قد تكون على يده وتخفى عليه لا تغير الماء ، فلولا تنجيسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه ، وبحديث أبي هريرة أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : { فليرقه ثم ليغسله سبع مرات } فالأمر بالإراقة والغسل دليل النجاسة ، وبحديث أبي قتادة : رضي الله عنه { أنه كان يتوضأ فجاءت هرة فأصغى لها الإناء فشربت فتعجب منه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات } حديث صحيح رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي وغيرهم قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وفيه دلالة ظاهرة : أن النجاسة إذا وردت على الماء نجسته ، واحتجوا بغير ذلك من الأحاديث . ومن حيث الاستدلال ما سبق مع أبي حنيفة : في أن النجاسة التي يشق الاحتراز منها يعفى عنها وما لا فلا ، وهذا يقتضي الفرق بين القليل والكثير وضبط الشرع بقلتين ، قال إمام الحرمين : ولأنه لا يشك منصف أن السلف لو رأوا رطل ماء أصابه قطرات بول أو خمر لم يجيزوا الوضوء به .

                                      وأما الجواب عن الحديث الذي احتجوا به فهو : أنه محمول على قلتين فأكثر فإنه عام وخبرنا خاص ، فوجب تقديمه جمعا بين الحديثين ، والجواب عن قياسهم على ما إذا ورد الماء على النجاسة من وجهين ( أحدهما ) من حيث النص : وهو أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما وذلك في حديثين أحدهما : حديث { إذا استيقظ أحدكم } فمنع صلى الله عليه وسلم من إيراد اليد على الماء ، وأمر بإيراده عليها ففرق بينهما ( والثاني ) : أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب لورود النجاسة ، وأمر بإيراد الماء على الإناء . فإن قالوا : الكلب طاهر عندنا ، قلنا : سنوضح الدلائل على نجاسته [ ص: 169 ] في بابه إن شاء الله تعالى ، والجواب الثاني من حيث المعنى : وهو أنا إذا نجسنا دون القلتين بورود النجاسة لم يشق لإمكان الاحتراز منها ، ولو نجسنا دون القلتين بوروده نجاسة لشق وأدى إلى أن لا يطهر شيء حتى يغمس في قلتين ، وفي ذلك أشد الحرج فسقط والله أعلم .

                                      واعلم أنه حصل في هذه المسألة جملة من الأحاديث ذكرناها وبجميعها يقول الشافعي رحمه الله على حسب ما سبق ، ولم يرد منها شيئا ، وهذه عادته رحمه الله في تمسكه بالسنة وجمعه بين أطرافها ورده بعضها إلى بعض على أحسن الوجوه ، وسترى إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب في نظائر هذه من مسائل الخلاف وغيرها ، من ذلك ما تقر به عينك ، وتزداد اعتقادا في الشافعي ومذهبه ، فليس الخبر الجملي كالعيان التفصيلي ، وبالله التوفيق .

                                      ( فرع ) نقل أصحابنا عن داود بن علي الظاهري الأصبهاني رحمه الله مذهبا عجيبا فقالوا : انفرد داود بأن قال : لو بال رجل في ماء راكد لم يجز أن يتوضأ هو منه لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه } ، وهو حديث صحيح سبق بيانه قال : ويجوز لغيره ; لأنه ليس بنجس عنده ، ولو بال في إناء ، ثم صبه في ماء ، أو بال في شط نهر ، ثم جرى البول إلى النهر قال : يجوز أن يتوضأ هو منه ; لأنه ما بال فيه ، بل في غيره .

                                      قال : ولو تغوط في ماء جاز أن يتوضأ منه ; لأنه تغوط ولم يبل ، وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد ، فهو أشنع ما نقل عنه إن صح عنه رحمه الله ، وفساده مغن عن الاحتجاج عليه ، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه وقالوا : فساده مغن عن إفساده ، وقد خرق الإجماع في قوله في الغائط ، إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول ، ثم فرقه بين البول في نفس الماء والبول في إناء ، ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء .

                                      ومن أخصر ما يرد به عليه : أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالبول على ما في معناه من التغوط وبول غيره كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في السمن : { إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، } وأجمعوا : أن [ ص: 170 ] السنور كالفأرة في ذلك ، وغير السمن من الدهن كالسمن ، وفي الصحيح { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله } فلو أمر غيره فغسله إن قال داود : لا يطهر لكونه ما غسله هو ، خرق الإجماع ، وإن قال : يطهر فقد نظر إلى المعنى وناقض قوله ، والله أعلم




                                      الخدمات العلمية