الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تم ذلك على أوضح المسالك، وختم بالحث على التذكر، وكان تقديم ذكر كتاب موسى محركا لتوقع ذكر نبئه ونبأ غيره من الرسل، عطف - مقرونا بحرف التوقع على العامل الذي قدرته في قوله: ألا تعبدوا إلا الله [ ص: 265 ] أو على قوله: إنما أنت نذير وهو أحسن وأقرب - قوله: ولقد أرسلنا أي: بما لنا من العظمة نوحا إلى قومه أي الذين هم على لسانه; وما بعد ذلك من القصص تقريرا لمضمون هذا المثل وتثبيتا وتسلية وتأييدا وتعزية لهذا النبي الكريم لئلا يضيق صدره بشيء مما أمر بإبلاغه حرصا على إيمان أحد وإن كان أقرب الخلائق إليه وأعزهم عليه كما تقدمت الإشارة إليه في قوله تعالى: فلا يكن في صدرك حرج منه وقوله: وضائق به صدرك ويأتي في قوله: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك فوضح أن هذه القصص لهذا المعنى سيقت، وأن سياقها في الأعراف وغيرها كان لغير ذلك كما تقدم وأن تضمن هذا الغرض بيان إهلاك من كانوا أشد من العرب قوة وأكثر جمعا وأمكن أمرا وأقوى عنادا وأعظم فسادا وأحد شوكة وما اتفق في ديارهم من الطامات والأهوال المفظعات تحذيرا من مثل حالهم بارتكاب أفعالهم، ففرق بين ما يساق للشيء وما يلزم منه الشيء، ولهذا الغرض المقصود هنا طولت قصة نوح في هذه السورة ما لم يطوله في غيرها، وصدرت بقوله: إني أي: قائلا على قراءة الجمهور بالكسر، والتقدير عند ابن كثير وأبي عمرو والكسائي: ملتبسا بأني لكم أي: خاصة نذير مبين أي: مخوف بليغ التحذير، أبين ما أرسلت به غاية البيان، وذكر فيها أنه طالت مجادلته لهم وأنه لما وضح له أمر الله تعوذ من السؤال فيه وفي كل ما يشبهه، وخللت [ ص: 266 ] قصته بقوله: أم يقولون افتراه خطابا لهذا النبي الكريم وختمت بقوله: فاصبر إن العاقبة للمتقين وذكرت قصة إبراهيم عليه السلام لما ضمنته من أنه بشر الولد بما لم يجر بمثله عادة فلم يتردد فيه، وأنه جادل الرسل في قوم ابن أخيه لوط ، وأنه لما تحقق حتم الأمر وبت الحكم سلم لربه مع كونه حليما أواها منيبا إلى غير ذلك مما يومئ إليه سياق القصص، فكأنه قيل: إنما أنت نذير أرسلناك لتبلغ ما أرسلت به من الإنذار وإن شق عليهم، وعزتنا لقد أرسلنا من قبلك رسلا منذرين فدعوا إلى ما أمرت بالدعوة إليه وأنذروهم ما يشق عليهم من بأسنا امتثالا لأمرنا وما تركوا شيئا منه خوفا من إعراض ولا رجاء في إقبال على أن أممهم قالوا لهم ما قالت لك أمتك كما يشير إليه قوله تعالى عن نوح : ولا أقول لكم عندي خزائن الله - الآية. وقد كان في المخالفين من أممهم القريب منهم نسبه والعزيز عليهم أمره من ابن وصاحبة وغيرهما، هذا مع أن قصصهم دليل على قوله تعالى: ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وزجر لهم عن مثل قولهم: ما يحبسه وتأييد لقوله: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة - وغير ذلك مما تقدم، فقد علم من هذا الوجه في تكرير هذه القصص، وأنه في كل سورة لمقصد يخالف المقصد في غيرها وإن كان يستفاد من [ ص: 267 ] ذلك فوائد أخر: منها إظهار القدرة في بيان الإعجاز بتصريف المعنى في الوجوه المختلفة لما في ذلك من علو الطبقة في البلاغة لأنه ربما قال متعنت عند التحدي: قد استوفى اللفظ البليغ على الأسلوب الأكمل البديع في هذه القصص فلم تبق لنا ألفاظ نعبر بها عن هذه المعاني حتى نأتي بمثل هذه القصة; فأتى بها ثانيا إظهارا لعجزه وقطعا لحجته، وربما كررت ثالثا ورابعا توكيدا لذلك وتمكينا للاعتبار بضروب البيان وتصبيرا للنبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه حالا فحالا، فإن قيل: فما بالها تأتي تارة في غاية البسط وتارة في غاية الإيجاز وتارة على الوسط؟ قيل: هذا من أعلى درجات البلاغة وأجل مراتب الفصاحة والبراعة، فإن قيل: فإنا نرى القصة تبسط في بعض السور غاية البسط ثم توجز في غيرها غاية الإيجاز ويؤتي فيها ما لم يؤت في المبسوطة كما في العنكبوت فإنه عين فيها مقدار لبثه وأنه كان ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم لا استوعبت جميع المعاني في الموضع المبسوط كما هو الأليق بمقام البسط لا سيما لمن لا يخفى عليه شيء ولا ينسى، وإذا وقع حذف كان في الموجزة، قيل: قال شيخنا حافظ العصر أبو الفضل بن حجر : إن الإمام أبا حاتم بن حبان البستي ذكر في كتابه: «التقاسيم والأنواع» : إنما لم يرتبه ليحفظ؛ إذ لو رتبه ترتيبا سهلا لاتكل من يكون عنده على سهولة الكشف منه فلا يتحفظه، وإذا وعر طريق الكشف [ ص: 268 ] كان أدعى إلى حفظه ليكون على ذكر من جميعه، وذكر أنه فعل ذلك اقتداء بالكتاب العزيز؛ فإنه ربما أتى بالقصص غير مرتبة، قال شيخنا: ومن هنا يظهر أن من أسرار تخصيص بعض الموجزات بما ليس في المبسوط الحث على حفظ الجميع - انتهى. وهذه فوائد ينبغي إهمالها بل تستعمل حيث أمكن، والعمدة في المناسبة الوجه الأول وهو أنها في كل سورة لمناسبة تخص تلك السورة، ثم يراعي في البسط وغيره المعاني المناسبة للمقصد الذي سيقت له القصة - والله الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      واللام في "لقد" للقسم: قال الإمام أبو الحسن علي بن عيسى الرماني : لأنها تدخل على الفعل والحرف الذي يختص بالفعل مما يصح معناه معه. ولام الابتداء للاسم خاصة، ومعنى "قد" توقع الخبر للتقريب من الحال، يقال: قد ركب الأمير - لقوم يتوقعون ركوبه \ فعلى هذا القول جرى: ولقد أرسلنا والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يمكن إدراكه، وأصله القطع، فالإبانة قطع المعنى من غيره ليظهر في نفسه - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية