الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 289 ] الباب التاســـع

                                                                                                                في

                                                                                                                الشهادة على الشهادة

                                                                                                                وفي الكتاب : تجوز الشهادة على الشهادة في الحدود ، والطلاق ، والولاء وكل شيء ، وتجوز شهادة رجلين على شهادة عدد كثير ، ولا يقبل أقل من اثنين عن واحد ; لأن أحياء الواحد تصرف يحتاج إثباته إلى ما تحتاج إليه التصرفات ، ولا يقبل في النقل واحد من يمين الطالب في مال ; لأنها بعض شاهد ، والنقل ليس بمال ، ولو أجيز ذلك لم يصل إلى قبض المال إلى يمينين ، وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأموال بشاهد ويمين واحدة . وتجوز شهادة النساء على الشهادة في الأموال مع رجل في المال أو الوكالة عليه ، ينقلن عن رجل أو امرأة ، وإن كثرن فلا بد من رجل ، وقاله أشهب ، وقال غيره : لا تجوز شهادتهن ، وقال غيره : تمتنع فيه شهادتهن على الشهادة ولا على وكالة في مال ، قال ابن القاسم : وما تمتنع فيه شهادتهن لا ينقلن فيه الشهادة عن غيرهن معهن رجل أم لا ، قال ابن يونس : إنما ينقل عن مريض أو غائب إلا النساء فينقلن عن الحاضرة الصحيحة ; لأن الأنوثة عذر كالمرض ، ولا ينقل في الحدود إلا في غيبة بعيدة بخلاف اليومين والثلاثة ، ويجوز في مثل هذا في غير الحدود ، ولا ينقل عن غير العدول إلى القاضي ليلا يغلط فيقضى بها ، قاله في الموازية ، وقال أشهب : إن لم يعرفوهم [ ص: 290 ] بالعدالة ، والقاضي يعرفهم ، أو عدلهم غيرهم جاز ; لأن المقصود هو الوثوق بقول الأصل ، قال أصبغ : يشترط أن يعلم القاضي أن المعدل هو المنقول عنه ; ليلا يجعل اسمه لغيره ، قال مطرف : فإن قالوا : كانوا يوم تحملنا عنهم عدولا ولا ندري اليوم حالهم ، ردت شهادتهم حتى يعلموا أنهم غيب أو أموات ، فلعلهم حضروا ، ورجعوا عن شهادتهم ، أو نسوها أو ذهبت عدالتهم ، قال مطرف : إذا سمعت رجلا يشهد عند القاضي جاز النقل عنه ، وقال أصبغ : يمنع حتى يشهد على قبول القاضي لتلك الشهادة ، وهو أشبه بظاهر المدونة .

                                                                                                                قال عبد الملك : إذا شهد رجلان على شهادة رجل ، وأحدهما وثالث على شهادة آخر في ذلك الحق يمتنع ; لأن بواحد أحيى شهادتهما ، وأجازه [ . . . ] واحد له جمع الرجلين ، فلو كان معهما آخر ينقل عنهما جاز عنده ، فكيف وهو مع رجلين كل واحد منهما ينقل عن رجل أقوى ؟ قال ابن القاسم : إذا شهد [ . . . ] امتنع آخر عن رجل امتنع ؛ لأن واحدا أدى الشهادة ، وتجوز شهادتك [ . . . ] إذا قدم الأصل فأنكر أو شك عن قرب أو بعد امتنع النقل ، قال مالك : وينقض الحكم ، وعنه [ . . . ] لا غرم عليها وهذا أصوب ، ولو كان قبل الحكم سقطت الشهادة كالرجوع عن الشهادة ، قال ابن القاسم : يجوز في الزنى شهادة أربعة على أربعة ، أو اثنين على اثنين ، واثنين على اثنين آخرين حتى يتم أربعة من كلتا الناحيتين ، وقال عبد الملك : إذا شهد أربعة على شهادة كل واحد من الأربعة جازت ، وإلا تفرقوا جلو لسان على كل واحد ; لأن النقل حكم بدني كالقتل يلغى فيه اثنان ، ويجوز في تعديلهم ما يجوز في تعديل غيرهم : اثنان على كل واحد ، وأربعة على جميعهم ، قال مطرف : لا يجوز إلا أربعة على كل واحد من الأربعة ; لأنها شهادة في الزنى فيستوي الأصل مع الفـرع فلا بد من ستة عشر ، ولو [ ص: 291 ] شهد ثلاثة على الرؤية فلا ينقل عن الرابع وحده ; لأنه لا بد من أربعة يجتمعون على الرؤية ، ولا يعدل كل واحد من شهود الرؤية إلا أربعة ، قال اللخمي : متى أمكن الأصل أن يؤدي عن نفسه لا يؤدي غيره لإمكان ريبة عنده ، وشهادة الأصل أحوط ; لأن الخلل ممكن على الأصل وعلى الفـرع ، فحال واحد أقرب للصواب ، وهو من حق المشهود عليه ، والغيبة قيل : اليومان ، قاله ابن القاسم في المال ، وفي الحدود يكفي ذلك ، وقاله سحنون ، وقيل : مسافة القصر في المال وغيره ، ويجوز نقل النساء عن رجل ، ولامرأتين شهدتا على طلاق أو قتل أو عتق ، فيحلف الزوج أو السيد ، ويقسم الأولياء ، ولا يصح نقل امرأتين منفردتين في شيء من ذلك ، كما يمتنع رجل عن رجل وامرأتين ، وجوز أصبغ نقل امرأتين شهدتا على ولادة واستهلال قياسا على الاكتفاء بهما في الأصل ، ومنع ابن القاسم إلا رجلا واحدا وامرأتين ، ومنع نقل أربع نسوة ; لأن الأول أجيز للضرورة لما كان لا يحضر غيرهن ، بخلاف النقل ، وقد منع أشهب نقلهن مطلقا ; لأن النقل لا يثبت بشاهد ويمين .

                                                                                                                قال صاحب البيــان : تمنع شهادة أربعة على أربعة في الزنى إلا أن يشهدوا معا على كل واحد من الأربعة ، فإن افترقوا فالتحمل عنهم ، فشهد الأربعة اليوم على أحدهم ، وغدا على الثاني ، وكذلك إلى الرابع ، امتنع ، إلا على القول بجواز تفرق الأصول في الأداء ، ويشترط ابن القاسم أن يكون الأربعة نقلوا عن زنى واحد ، في زمن واحد ، في مكان واحد ، وأن يؤدي الفروع مجتمعين كالأصول ، وكل ما هو معتبر في الأصول معتبر في الفروع ، قال صاحب المنتقى : إذا سمعته يقص شهادته لا تنقلها عنه حتى يشهدك على ذلك ; لأنه في غير وقت الأداء قد يترك التجوز ، وأنت معه كالحاكم إن لم يسمعه لم يحكم بشهادته حتى يؤديها عنده ، قاله مالك ، ولو سمعته يشهد غيرك على شهادته : قال ابن المواز : لا تشهد أنت بخلاف المقر ، قال : وهو على الخلاف فيمن [ ص: 292 ] سمعته يؤدي عند الحاكم ، منع أشهب النقل عنه ، وأجازه مطرف إذا مات القاضي أو عزل ، ومنع أصبغ حتى يشهدك أو تشهد أنت على قبول القاضي تلك الشهادة .

                                                                                                                تنبيه : اتفق الناس في الشهادة على الشهادة في المال ، وقاله ( ش ) في حقوق الله تعالى في أحد قوليه ، وقال ( ح ) وابن حنبل : لا تقبل في قصاص ولا حد ; لنا : عموم قوله تعالى : ( شهيدين من رجالكم ) و ( ذوي عدل منكم ) ، ولم يخص أصلا من فـرع ; لأن القصاص حق لآدمي كالمال ; لأنها إذا جازت في المال للحاجة [ . . . ] أولى في القصاص أشد ، وأن الشهادة على الإقرار بالزنى تجوز ، وهو إخبار عن الفعل ، وكذلك الإخبار عن الشهادة .

                                                                                                                احتجــوا : بأن النقل خلاف القياس ; لأن الشاهد ينقل للحاكم حقا لزم غيره [ . . . ] الشهادة [ . . ] حقا تلزم ; لأنك لو ادعيت على شاهد [ . . . ] عليه بينة ، ولأن الفـرع يترتب على شهادة إقامة الحد ، وهو لم يعلمه بذلك [ . . ] - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا رأيت مثل هذه الشمس فاشهد ، وإلا فدع ) ، ولأن الحاكم يحكم في [ . . . ] على شهادة الأصل ، وهو لم يؤد عنده ، فهو حكم بشهادة لم تؤد عند حاكم ترك هذا القياس في معارضة الإجماع ، فيستعمل في صورة النزاع ; لأن الحدود تسقط بالشبهة ، وتوهم الغلط في الفـرع مع [ . . . ] الأصل شبهة معتبرة بدليل أن الفـرع لا يقبل مع وجود الأصل ، ولأن الستر مكتوب في الحدود ، فلا [ . . . ] 3 إلى إقامتها ، وشهادة الفـرع إنما أجيزت للحاجة ، وهذا فرق يمنع صحة القياس على المال مع عدم النص ، فتنحسم مادة مشروعيتها .

                                                                                                                [ ص: 293 ] والجواب عن الأول : أن الشهادة حق واجب بالإجماع ، ويقضي كاتبها ، وإنما امتنعت إقامة البينة عليه ; لأن من شرط البينة الإنكار ، والشاهد إذا أنكر بطل ما عنده من الشهادة ، والحديث حجة لنا ; لأن الفـرع إنما شهد بما سمعه من الأصل ، وهو معلوم له بحاسة السمع ، وأما قولكم : هو حكم الشهادة لم تؤد عند حاكم ، فممنوع ، بل نقل الفـرع قام مقام الأصل ، والحدود أن يتقى هي أن وعدلها .

                                                                                                                وعن الثانــي : أن هذا الاحتمال شبهة متنازع فيها فنحن نمنعها ، والشبهة ثلاثة أقسام : مجمع على اعتبارها ، وعلى إلغائها ، ومختلف فيها فلا ينتفع الخصم إلا بالمجمع على اعتباره .

                                                                                                                وعن الثالث : أنه ينتقض بشهود الأصل فإن قبولهم يأتي الستر ، وهم لا حاجة إليهم ; لأنهم أمروا بالكتم والستر ، ووافقنا الأئمة على أن الفروع إذا زكوا الأصول ولم يذكروا نسبهم وأسماءهم لا يقبل ، وأنك لا تشهد عليه حتى يقول لك : اشهد علي ، لي ، اشهد بكذا ، ووافقنا ( ش ) و ( ح ) على أنه لا بد من شاهدين على كل واحد من الأصول ، وقال ابن حنبل : يكفي شاهدان على شاهدين ، فيكفي على أحد الأصلين واحد ، وعن الآخر آخر ، لنا : قياس كل واحد من الأصول على الإقرار بجامع الإخبار ، ظاهر قوله تعالى : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وقوله تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) . احتجوا : بقياس الفـرع على الأصل ، ولأن الفـرع لا ينقل حقا لازما للأصل فيستعدى فيه الواحد كالرواية .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن الأصل إذا انفرد واحد منهم لا بد معه في الحق [ ص: 294 ] الواحد من شاهد آخر أو يمين ، والإخباران عن الأصلين حكمان ، فلا يكفي في أحدهما واحد ، قياسا للفـرع على الأصل فتنقلب النكتة عليكم .

                                                                                                                وعن الثانــي : أن الرواية حق عام في الأعصار والأمصار ، فلا تتوهم فيه العداوة ، فاكتفي فيه بالواحد ، وهذا خاص مما يتوهم فيه العداوة فهو بالشهادة أليق فيشترط فيه العدد .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                في الجــواهر : طرؤ الموت والغيبة والمرض والجنون على شهود الأصل لا يمنع من وصف أشرف ، وبقاء حكمه شرعا ، وهذه الأوصاف تمنع بقاء الشرف ومعنى العداوة شرعا ، وإذا بطل الأصل بطل الفـرع .

                                                                                                                فـرع

                                                                                                                قال : وليس على الفـرع تزكية الأصول ، وإن زكوهم ثبتت عدالتهم وشهادتهم بقولهم ، وليس عليهم أن يشهدوا على صدق شهود الأصل ; لأنهم لم يعاينوه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية