الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 375 ]

                                                                                                                                                                                                                              جماع أبواب رضاعه صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وفضلا

                                                                                                                                                                                                                              الباب الأول في مراضعه صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              جملة من قيل إنهن أرضعنه صلى الله عليه وسلم عشر نسوة.

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: أمه صلى الله عليه وسلم أرضعته سبعة أيام. ذكر ذلك جماعة منهم صاحب المورد والغرر.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: ثويبة بضم الثاء المثلثة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية بعدها ياء موحدة أرضعته بلبن ابنها مسروح بفتح الميم وسكون السين المهملة ثم راء مضمومة وآخره حاء مهملة. قال ابن منده : اختلف في إسلامها وقال أبو نعيم لا أعلم أحدا ذكر إسلامها إلا ابن منده . قال الحافظ: وفي باب من أرضع النبي صلى الله عليه وسلم من طبقات ابن سعد ما يدل على أنها لم تسلم، ولكنه لا يدفع نقل ابن منده به. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: لا نعلم أنها أسلمت. وقال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على إسلام ابنها مسروح وهو محتمل. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              فأرضعته صلى الله عليه وسلم أياما حتى قدمت حليمة، وكانت ثويبة أرضعت قبله حمزة وبعده أبا سلمة بن عبد الأسد، وكانت مولاة أبي لهب .

                                                                                                                                                                                                                              روى عبد الرزاق والإسماعيلي والبخاري في كتاب النكاح في باب «وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم » عن عروة : ثويبة مولاة أبي لهب، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، [ ص: 376 ] فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم. زاد عبد الرزاق : راحة. ولفظ الإسماعيلي : لم ألق بعد رخاء.

                                                                                                                                                                                                                              وحذف المفعول في جميع روايات البخاري . «غير أني سقيت في هذه » زاد عبد الرزاق - وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه بعتاقتي ثويبة.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر السهيلي وغيره أن الرائي له أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر: أن أبا لهب قال للعباس، إنه ليخفف علي في يوم الاثنين. قالوا: لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال في الغرر: واختلفوا متى أعتقها. فقيل: أعتقها حين بشرته بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              وهو الصحيح. وقيل إن خديجة سألت أبا لهب في أن تبتاعها منه ليعتقها فلم يفعل. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب . وهو ضعيف. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ: واستدل بهذا على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، وهو مردود بظاهر قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا لا سيما والخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به. وعلى تقدير أن يكون موصولا فلا يحتج به.

                                                                                                                                                                                                                              إذ هو رؤيا منام لا يثبت به حكم شرعي، لكن يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا من ذلك، بدليل التخفيف عن أبي طالب المروي في الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وعلى هذا الاحتمال جرى جمع كما سبق، نقل ذلك عنهم. قال البيهقي : ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا يكون لهم التخلص من النار ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر، بما عملوه من الخيرات.

                                                                                                                                                                                                                              وأما عياض رحمه الله تعالى فقال: انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض، قال الحافظ:

                                                                                                                                                                                                                              وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال القرطبي رحمه الله تعالى: هذا التخفيف خاص بهذا أو بمن ورد النص فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن المنير رحمه الله تعالى في الخامسة: هما قضيتان إحداهما محال، وهي [ ص: 377 ] اعتبار طاعة الكافر مع كفره، لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: إثبات ثواب على بعض الأعمال تفضلا من الله تعالى وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله تعالى عليه بما شاء كما تفضل علي بن أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ: وتتمة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن وقع من الكافر البر له ونحو ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              حيبة: بحاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة وفي لفظ عند السهيلي بالخاء المعجمة المفتوحة.

                                                                                                                                                                                                                              عتاقتي: بفتح العين المهملة: أحد مصادر عتق العبد الذي هو فعل لازم وإنما عبر في هذا الحديث بالعتاقة دون الإعتاق وإن كان المناسب الإعتاق لأنها أثره: فلذلك أضافها إلى نفسه بقوله: عتاقتي. قاله الترمذي في شرح العمدة.

                                                                                                                                                                                                                              النقرة: قال ابن بطال رحمه الله تعالى: يعني أن الله سقاه ما في مقدار نقرة إبهامه لأجل عتق ثويبة . كما ذكر في حديث أبي طالب أنه في ضحضاح من نار لا في النار، بسبب حفظه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف أبي لهب فإنه كان يؤذيه فكان نصيبه من الرفق والرحمة دون أبي طالب . قال غيره: أراد بالنقرة التي بين إبهامه وسبابته إذا مد إبهامه فصار بينهما نقرة يسقى من الماء بقدر ما يسع تلك النقرة نقل ذلك في غريبي الهروي .

                                                                                                                                                                                                                              وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة يكرمان ثويبة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر، فسأل عن ابنها مسروح فقيل قد مات فسأل عن قرابتها فقيل لم يبق منهم أحد.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: امرأة من بني سعد غير حليمة . روى ابن سعد عن ابن أبي مليكة رحمه الله تعالى أن حمزة كان مسترضعا له عند قوم من بني سعد بن بكر، وكانت أم حمزة قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند أمه حليمة.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: خولة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن عدي بن النجار، أم بردة الأنصارية، ذكر الإمام أبو الحسن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم المعروف بابن الأمين أنها أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ذكرها العدوي وتابعه في العيون والمورد، وهو وهم إنما أرضعت [ ص: 378 ] ولده صلى الله عليه وسلم إبراهيم. كما ذكر ابن سعد وأبو عمر وغيرهما وعليه جرى الحافظ في الإصابة كما رأيته بخطه. ونصه بعد أن ساق نسبها: مرضعة ابن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الصواب. خلافا لما في بعض النسخ السقيمة من إسقاط ابن ولم أر من نبه على ذلك ثم بعد مدة رأيت القاضي عز الدين بن القاضي بدر الدين بن جماعة رحمهما الله تعالى ذكر في سيرته المختصرة أن ابن الأمين وهم في ذكرها في الرضاع وأن بعض العصريين حكوا ذلك عنه من غير تعقب. انتهى فسررت بذلك وحمدت الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: أم أيمن بركة ذكرها القرطبي . والمشهور أنها من الحواضن لا من المراضع.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة والسابعة والثامنة: قال أبو عمر رحمه الله تعالى: أنه صلى الله عليه وسلم مر به على نسوة ثلاثة من بني سليم فأخرجن ثديهن فوضعنها في فيه فدرت عليه. ورضع منهن.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة: أم فروة ذكرها المستغفري . ثم روي عن ابن إسحاق عن أم فروة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ: قل يا أيها الكافرون فإنها براءة من الشرك قال أبو موسى المديني رحمه الله تعالى: اختلف في راوي هذا الحديث. فقيل فروة. وقيل أبو فروة وقيل أم فروة وهذا أغرب الأقوال.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ في الإصابة: بل هو غلط محض وإنما هو أبو فروة وكأن بعض رواته لما رأى عن أبي فروة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم ظنه خطأ والصواب أم فروة فرواه على ما ظن فأخطأ هو واسم الظئر لا يختص بالمرأة المرضعة بل يطلق على زوجها أيضا. وقد أخرجه أصحاب السنن الثلاثة من طرق عن ابن إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه. وهكذا أخرجه أبو داود والنسائي من رواية إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق مجردا وفيه على أبي إسحاق اختلاف. وهذا هو المعتمد.

                                                                                                                                                                                                                              انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة: حليمة بنت أبي ذؤيب بذال معجمة. ابن عبد الله بن سجنة بسين مهملة مكسورة فجيم ساكنة فنون مفتوحة. ابن رزام براء مكسورة ثم زاي، ابن ناصرة بن فصية بالفاء تصغير فصاه وهي النواة من التمر، ابن سعد بن بكر بن هوازن . كذا قاله ابن إسحاق . وقال ابن الكلبي : اسم أبي ذؤيب الحارث بن عبد الله بن سجنة . قال البلاذري : وهو الثبت. قال النووي رحمه الله تعالى: كنية حليمة أم كبشة اسم أبيه الذي أرضعه الحارث بن عبد العزى . [ ص: 379 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية