الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      السادس القول بالموجب ( بفتح الجيم ) ، أي : القول بما أوجبه دليل المستدل . أي الموجب [ ص: 373 ] بكسرها ) فهو الدليل المقتضي للحكم ، وهو تسليم مقتضى ما نصبه المستدل موجبا لعلته ، مع بقاء الخلاف بينهما فيه . وذلك بأن يظن المعلل أن ما أتى به مستلزم لمطلوبه من حكم المسألة المتنازع فيها ، مع كونه غير مستلزم ، فلا ينقطع النزاع بتسليمه ، وهذا أولى من تعريف الإمام الرازي له بموجب العلة ، لأنه لا يختص بالقياس ، أي : أن يكون دليله لا يشعر بحكم المسألة المتنازع فيها . وهذا فيه إشكال ، لأن الاستدلال على غير محل النزاع لا يعتد به ، والاستدلال على محل النزاع لا يمكن القول بموجبه .

                                                      وأجيب بأن المستدل قد يتخيل من الخصم مانعا لحكم المسألة بحيث لو بطل ذلك المانع تقرر أن الخصم يسلم له الحكم ، فيجعل المستدل عمدته في الاستدلال لإبطال ما تخيله ظنا منه أنه إذا بطل كونه مانعا سلم الحكم ، فكأنه قد استدل على غير الحكم المسئول ، أو استدل على أن الأمر المذكور غير مانع من الحكم ، وإذا لم يكن مانعا لزم الحكم .

                                                      وقال ابن المنير : حدوه بتسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع فيه وهو غير مستقيم ، لأنه يدخل فيه ما ليس منه ، وهو بيان غلط المستدل على إيجاب النية في الوضوء بقوله : { في أربعين شاة شاة } فقال المعترض : أقول بموجب هذا الدليل ، لكنه لا يتناول محل النزاع فهذا ينطبق عليه الحد وليس [ ص: 374 ] قولا بالموجب ، لأن شرطه أن يظهر عذر للمستدل في الغلط ، فتمام الحد أن يقال : هو تسليم نقيض الدليل مع بقاء النزاع حيث يكون للمستدل عذر معتبر . انتهى .

                                                      وكان الشيخ محيي الدين القرميسي من أئمة الأصول والجدل بالإسكندرية يذهب إلى أنه تقرير التسليم وليس بتسليم حقيقة . وحقيقته بيان انحراف الدليل عن محل النزاع ، وعلى هذا فلا يلزم منه الانقطاع ، بل إن ثبت انحراف الدليل فقد انقطع المستدل ، وإن ثبت أنه غير منحرف لم ينقطع المعترض ، بل ينزل على أنه في مسألة النزاع ويورد عليه ما يليق به وينبني على هذا الخلاف فرعان :

                                                      ( أحدهما ) : أنه هل يجب تأخير القول بالموجب عن بقية الأسئلة ؟

                                                      ( الثاني ) : أنه حيث لزم فهل هو انقطاع ؟ فإن قلنا بالأول فإذا سلم المعترض ذلك حقيقة وتبين أنه محل النزاع فقد سلم المسألة وكان منقطعا . وإن قلنا بالثاني : إنه عبارة عن انحراف الدليل عن محل النزاع وأنه بين ذلك بأن سلم مدلول الدليل تقديرا لا تحقيقا مع بقاء النزاع ، فعلى هذا إن لزم ذلك فقد انقطع المستدل ، وإن لم يلزمه لم يحكم بانقطاع المعترض . بل له أن يورد بعد ذلك ما شاء من الأسئلة . وهذا هو الذي كان يختاره القرميسي

                                                      ومن أعذاره : أن يبني المستدل على أن الخصم يوافق على المقتضي ، وإنما يمنعه من [ ص: 375 ] العمل ثم تخيل ما ليس بمانع مانعا ، فيعمد المستدل إلى ذلك المانع فيبطله ليسلم المقتضي فيلزم الخصم الموافقة . هذا ظن المستدل ، ويكون المعترض مثلا لا يوافقه على المقتضي ، أو يوافقه ولكن المانع عنده أجنبي عما يخيل المستدل ، أنه المانع عنده ، أو غير أجنبي ولكنه جزء المانع ، فلا يلزم من سلب الماهية عن الجزء سلب الماهية عن الكل ، أو مانع مستقل ولكن يجوز أن يكون هناك مانع آخر . وإذا جاز تعدد العلل جاز تعدد الموانع . ومنها : أن يذكر المستدل إحدى المقدمتين ويسكت عن الأخرى ظنا أنها مسلمة ، فيقول الخصم بموجب المقدمة المذكورة ، ويبقى على المنع ، لأنه يتجه على منع السكوت عنها .

                                                      ومنها : أن يعتقد تلازما بين محل النزاع وبين محل آخر ، فينصب الدليل على ذلك المحل بناء منه على أنه ما ثبت الحكم في ذلك المحل لزم أن يثبت في محل النزاع ، فيقول المعترض بالموجب ويمنع الملازمة . انتهى .

                                                      والقول بالموجب من أحسن ما يجيء به المناظر ، ومنه قوله تعالى : { ولله العزة ولرسوله } . . . في جواب { ليخرجن الأعز منها الأذل } فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم وبالأذل عن فريق المؤمنين ، وأثبتوا للأعز الإخراج ، فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صنف العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، أي : فإذا كان الأعز يخرج الأذل فأنتم المخرجون ( بفتح الراء ) وهو من أحسن وجوه الاعتراضات ، وأكثر الاعتراضات الواردة على النصوص ترجع إليه ، لأن النص إذا ثبت فلا يمكن رده ، فلا يرد عليه سؤال إلا وحاصله يرجع إلى تسليم النص ومنع لزوم الحكم منه .

                                                      والفرق بينه وبين المعارضة أن حاصله يرجع إلى حيد الدليل الصحيح عن محل النزاع ، والمعارضة فيها اعتراف بمساس الدليل لمحل النزاع . قال [ ص: 376 ] إلكيا : وإنما يتصور القول بالموجب إذا لم يأت المعلل بما يؤثر في نفس الحكم المتنازع فيه ، بل يعترض لإبطال ما ظنه موجبا ومؤثرا عند الخصم والمؤثر غيره ، ولو صرح بنفس الحكم فلا يتصور توجه القول بالموجب .

                                                      وقال ابن السمعاني ، تبعا للإمام : هو سؤال صحيح إذا خرج مخرج الممانعة ، ولا بد في توجهه من شرط ، وهو أن يسند الحكم الذي تنصب له العلة إلى شيء ، مثل قول الحنفي في ماء الزعفران : ماء خالطه طاهر ، والمخالطة لا تمنع صحة الوضوء ، فيقول السائل : المخالط لا يمنع الماء ، مع أنه ليس بماء مطلق .

                                                      وشرط في " المنخول " لصحته أن يبقى الخلاف معه في محل النزاع ، ( قال ) : ولا ينافي القول بالموجب مع التصريح بالحكم الذي أثبت النزاع فإنه يرتفع الخلاف . وإنما يتوجه إذا أجمل الحكم ، وقال : إن كان كذا فجاز أن يكون كذا ، فيقول بموجبه في بعض الصور ، أو يتعرض لنفي علة الخصم .

                                                      وما ذكرناه من جعله من قوادح العلة صرح به إلكيا والإمام الرازي والآمدي وغيرهم ، ووجهه أنه إذا قال بموجبها كانت العلة في موضع الإجماع ، ولا تكون متناولة لموضع الخلاف ، ولأنه إذا كان تسليم موجب ما ذكره من الدليل لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم الذي قصد إثباته .

                                                      وظاهر كلام ، الجدليين أنه ليس من قوادح العلة ، لأن القول بموجب الدليل تسليم ، فكيف يكون مفسدا ؟ وحكى في " المنخول " أن القول بالموجب لا يسمى اعتراضا ; لأنه مطابقة للعلة ، والخلاف لفظي . [ ص: 377 ] وقد عده إمام الحرمين في " البرهان " من الاعتراضات الصحيحة ، ثم قال : ثم الأصوليون تارة يقولون : القول بالموجب ليس اعتراضا ، وهو لعمري كذلك ، فإنه لا يبطل العلة ، لأنه إذا جرت العلة وحكمها مختلف فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى قال المقترح في تعليله : إن أرادوا بقولهم : لا يبطل العلة مطلقا فمسلم ، فإنها لا تبطل في جميع مجاريها ، وإن أرادوا لا تبطل في محل النزاع فغير صحيح ، فإنه يلزم من القول بالموجب إبطال العلة في محل النزاع ، وهذا هو الذي تصدى المعترض له ، وهو إبطال علة المستدل في المحل المتنازع فيه ، فلم يصح قولهم : إنه ليس مبطلا للعلة إلا على تقدير إرادة أنه لا يبطلها في جميع مجاريها .

                                                      وقال الخوارزمي في " النهاية " : إذا توجه القول بالموجب انقطع أحد الخصمين : إن بقي النزاع انقطع المستدل ، وإن لم يبق النزاع انقطع السائل ( انتهى )

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية