الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون

                                                                                                                                                                                                هذه أم المنقطعة الكائنة بمعنى : بل والهمزة ، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار [ ص: 135 ] لما بعدها ، والمنكر : هو اتخاذهم ، آلهة من الأرض هم ينشرون : الموتى ، ولعمري ، أن من أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات .

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم ؟ وكيف وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله -عز وجل- بأنه خالق السماوات والأرض : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان : 25 ] ، وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى منكرين البعث ويقولون : من يحيي العظام وهي رميم ، وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم ، فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا ؟

                                                                                                                                                                                                قلت : الأمر كما ذكرت ، ولكنهم بادعائهم لها الإلهية ، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار ؛ لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور ، والإنشار من جملة المقدورات ، وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل ، وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده ؛ لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة ؛ ونحو قوله : من الأرض ، قولك : فلان من مكة أو من المدينة ، تريد : مكي أو مدني ، ومعنى نسبتها إلى الأرض : الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض ؛ لأن الآلهة على ضربين : أرضية ، وسماوية ؛ ومن ذلك حديث الأمة التي قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "أين ربك ؟" فأشارت إلى السماء ، فقال : "إنها مؤمنة " ؛ لأنه فهم منها أن مرادها نفي الآلهة الأرضية التي هي الأصنام ، لا إثبات السماء مكانا لله -عز وجل- ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض ؛ لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة ، أو تعمل من بعض جواهر الأرض .

                                                                                                                                                                                                [ ص: 136 ] فإن قلت : لا بد من نكتة في قوله : " هم " .

                                                                                                                                                                                                قلت : النكتة فيه : إفادة معنى الخصوصية ، كأنه قيل : أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم ، وقرأ الحسن : "ينشرون " ، وهما لغتان : أنشر الله الموتى ، ونشرها ، وصفت آلهة بإلا كما توصف بغير ، لو قيل : آلهة غير الله .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية