الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1448 - مسألة : وكل من باع بيعا فاسدا فهو باطل ، ولا يملكه المشتري ، وهو باق على ملك البائع ، وهو مضمون على المشتري إن قبضه ضمان الغصب سواء سواء ، والثمن مضمون على البائع إن قبضه - : ولا يصححه طول الأزمان ، ولا تغير الأسواق ، ولا فساد السلعة ، ولا ذهابها ، ولا موت المتبايعين أصلا .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة في بعض ذلك كما قلنا ، وقال في بعض ذلك : من باع بيعا فاسدا فقبضه المشتري فقد ملكه ملكا فاسدا ، وأجاز عتقه فيه .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك في بعض ذلك : كما قلنا ، وقال في بعض ذلك : إن من البيوع الفاسدة بيوعا تفسخ إلا أن يطول الأمر ، أو تتغير الأسواق : فتصح حينئذ .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذان قولان لا خفاء بفسادهما على من نصح نفسه ، أما قول أبي حنيفة : فقد ملكه ملكا فاسدا - فكلام في غاية الفساد ، وما علم أحد قط في دين الله تعالى ملكا فاسدا ، إنما هو ملك فهو صحيح ، أو لا ملك فليس صحيحا ، وما عدا هذا فلا يعقل .

                                                                                                                                                                                          وإذ أقروا أن الملك فاسد فقد قال تعالى : { والله لا يحب الفساد } فلا يحل لأحد أن يحكم بإنفاذ ما لا يحبه الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } .

                                                                                                                                                                                          فمن أجاز شيئا نص الله تعالى على أنه لا يصلحه فقد عارض الله تعالى في حكمه ، وهذا عظيم جدا ، وقد احتج بعضهم في هذا بحديث بريرة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا احتجاج فاسد الدين ، ونبرأ إلى الله تعالى ممن نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنفذ الباطل ، وأجاز الفاسد - والله ما تقر على هذا نفس مسلم .

                                                                                                                                                                                          واحتج بعضهم بأن البائع سلطه عليه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ليس لأحد أن يسلط غيره على شيء من ماله بما لم يأذن الله تعالى [ ص: 333 ] فيه ، فليجيزوا على هذا أن يسلطه على وطء أم ولده وأمته ، وهذه ملاعب وضلال لا خفاء به .

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك : فأول ما يقال لمن قلده : حدوا لنا المدة التي إذا مضت صح البيع الفاسد عندكم بمضيها ، وإلا فقد ضللتم وأضللتم .

                                                                                                                                                                                          وحدوا لنا تغير الأسواق الذي أبحتم به المحرمات ، فإن زيادة نصف درهم وحبة ، ونقصان ذلك تغير سوق بلا شك .

                                                                                                                                                                                          فإن أجازوا صحة الفاسد بهذا المقدار فقد صح كل بيع فاسد ; لأنه لا بد من تقلب القيم بمثل هذا أو شبهه في كل يوم .

                                                                                                                                                                                          ثم نسألهم الدليل على ما قالوه من ذلك ؟ ولا سبيل إليه ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد يعرف قبله ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه ، بل هو إباحة أكل المال بالباطل .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا في ذلك حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم { الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن ترك ما اشتبه عليه كان لما سواه أترك ، واستبرأ لدينه وعرضه } أو كلاما هذا معناه ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : أنتم أول مخالف لهذا الخبر ; لأنكم إن قلتم : إنكم إنما حكمتم بهذين الحكمين فيما اشتبه عليكم تحريمه من تحليله ؟

                                                                                                                                                                                          قال : إما كذبتم ، وإما صدقتم ، فإن كنتم كذبتم : فالكذب حرام ومعصية وجرحة ، وإن كنتم صدقتم فما أخذتم بما في الحديث الذي احتججتم به : من اجتناب القول والحكم فيما اشتبه عليكم ، بل جسرتم أشنع الجسر ، فنقلتم الأملاك المحرمة ، وأبحتم الأموال المحظورة فيما أقررتم بألسنتكم : أنه لم يتبين لكم تحريمه من تحليله ، فخالفتم ما في ذلك الخبر جملة .

                                                                                                                                                                                          وإن قلتم : حكمنا بذلك حيث ظننا أنه حرام ولم نقطع بذلك ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : قد حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هذا عليكم ، قال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } . [ ص: 334 ]

                                                                                                                                                                                          وذم قوما حكموا فيما ظنوه ولم يستيقنوه .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } والفرض على من ظن ولم يستيقن أن يمسك : فلا يحكم ولا يتسرع فيما لا يقين عنده فيه ، فإذا تيقن حكم حينئذ .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو محمد : قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم }

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { تبيانا لكل شيء }

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم }

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال : لا ينبغي لقاض أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين الليل من النهار ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال : صدق أبو موسى .

                                                                                                                                                                                          قال علي : المفتي قاض ; لأنه قد قضى بوجوب ما أوجب ، وتحريم ما حرم ، أو إباحة ما أباح ، فمن أيقن تحريم شيء بنص من القرآن أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت فليحرمه وليبطله أبدا .

                                                                                                                                                                                          ومن أيقن بإباحته بنص كما ذكرنا فليبحه ولينفذه أبدا .

                                                                                                                                                                                          ومن أيقن بوجوب شيء بنص كما ذكرنا فليوجبه ولينفذه أبدا ، وليس في الدين قسم رابع أصلا ، وما لم يتبين له حكمه من النص المذكور فليمسك عنه وليقل كما قالت الملائكة : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } وما عدا هذا فضلال نعوذ بالله منه .

                                                                                                                                                                                          قال تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية