الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ثم يقول سبحانه: إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم الضمير في (خلقهم) يصح أن يعود إلى الناس، ويكون الاستثناء في قوله: إلا من رحم استثناء من الاختلاف ويكون المعنى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة في الهداية والتقوى والفضيلة، ولكنه لم يشأ ذلك إلا في الذين رحمهم، وتكون (اللام) للتعليل، أي: أن الله تعالى خلق الناس متنازعين في الخير والشر، ولا يهتدي إلى الخير إلا الخلصاء الأطهار، ولذلك خلق الناس مختلفين لتبين الصفوة، ولتصل إلى الخير في وسط أشواك من الباطل فيكون لهم فضل الجهاد في الوصول إلى الحق.

                                                          ويصح أن يعود الضمير إلى قوله تعالى: إلا من رحم أي: المستثنى ويكون المعنى كالأول في نتيجته وغايته، أي: أن الله تعالى خلق الناس مختلفين متعاركين يخلص الصفوة المرضية، ولأجل تلك الصفوة، والمؤدى في التخريجين أن الله تعالى خلق الناس كذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب

                                                          وإن القلة التي يرحمها الله بالإيمان، والكثرة هي تكون في النار، ولذا قال تعالى: وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

                                                          أشار سبحانه وتعالى إلى الذين رحمهم الله تعالى، وفي هذا النص يذكر الذين عصوا أمر ربهم، والرحمة بهم ليست من عدل الله، لأنهم لم يرحموا أنفسهم، ومن لا يرحم لا يرحم، فقال تعالى: وتمت كلمة ربك [ ص: 3776 ]

                                                          وتمام الكلمة إحكامها بحيث لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتخلف، وكلمة الله تعالى هي أمره الذي ظهر في قوله. وفي الكلام قسم مطوي دلت عليه اللام في (لأملأن) فهي لام القسم، ونون التوكيد ملازمة للقسم فهي أيضا دالة عليه، وقوله تعالى: من الجنة والناس أجمعين

                                                          (من) هنا لبيان من يملأ منهم، و: (الجنة) الكلام على تقدير العصاة أي: من عصاة الجن، وعصاة الإنس، والجن عبر عنهم بالجنة، والإنس عبر عنهم بالناس كما في قوله تعالى: من الجنة والناس

                                                          وقدر عصاة لأمرين:

                                                          الأمر الأول: أن الجزاء بجهنم كما في عرف القرآن، وكما هو العقل - يكون للعصاة.

                                                          الأمر الثاني: أن الناس مختلفون، فذكر الله تعالى أهل الطاعة، وتفضل عليهم برحمته، فقال فيما سلف إلا من رحم والمخالفون لهم هم العصاة، وكان بمقتضى التقسيم أن تكون لهم جهنم، وقد تأكد أنهم يملأونها.

                                                          وعلى ذلك تكون كلمة (أجمعين) تأكيدا، بأن العصاة كلهم سيدخلون جهنم، وتمتلئ بهم لا يفر منها جبار، ولا نافخ نار.

                                                          وإذا أريد جنس الجنة وجنس النار يكون الظاهر أنه لا ينجو من أحد الجنسين أحد، ويكون التأكيد لبيان أنه يستوي الجنسان، في ألا يغادرها أحد، كما تقول ملأنا الحقيبة من أوراق امتحان الشريعة والمدني والجنائي جميعا، أي: فيها الأصناف جميعا غير متخلف بها صنف من هذه الأصناف.

                                                          ولا شك أن التقدير الأول أظهر وأبين، وسياق القول يقتضيه، ولقد روي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين [ ص: 3777 ] والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط " ، والله أعلم.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية