الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1648 [ ص: 190 ] حديث رابع وعشرون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال ، قالت : فدخلت عليهما فقلت : يا أبت كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :


كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله



وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة     وهل يبدون لي شامة وطفيل



قالت عائشة : فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، فقال : اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها ، وانقل حماها واجعلها في الجحفة
.

التالي السابق


وأما قوله : إذخر وجليل ، فهما نبتان من الكلأ طيبا الرائحة يكونان بمكة وأوديتها ، لا يكادان يوجدان بغيرها ، وشامة وطفيل جبلان بمكة ، وقيل : أحدهما بجدة ، وقيل : بوادي فخ .

[ ص: 191 ] ولم يختلف رواة الموطأ فيما علمت عن مالك في إسناد هذا الحديث ، ولا في متنه ، ولم يذكر مالك فيه قول عامر بن فهيرة ، وسائر رواة هشام يذكرونه عنه فيه بهذا الإسناد ، وذكره مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد قال : قالت عائشة : وكان عامر بن فهيرة يقول :


قد رأيت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه



ورواه ابن عيينة ومحمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه ، عن عائشة ، فجعل الداخل على أبي بكر وبلال وعامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا عائشة ، وقد تابع مالكا على روايته في ذلك سعيد بن عبد الرحمن التحرومي .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا علي بن محمد قال : حدثنا أحمد بن داود قال : حدثنا سحنون قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني سعيد بن عبد الرحمن ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة قالت : فدخلت عليهم وهم في بيت ، فقلت : يا أبت كيف تجدك ؟ يا بلال كيف تجدك ؟ يا عامر كيف تجدك ؟ فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :


كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله



ويقول عامر بن فهيرة :

قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه



وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته فيقول : ألا ليت شعري . . . فذكر البيتين
.

والحديث إلى آخره كرواية مالك سواء ، إلا أنه ذكر فيه قول عامر بن فهيرة كما ترى وجعل الداخل عليهم عائشة .

[ ص: 192 ] وأما حديث ابن عيينة فحدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة حم أصحابه ، قالت : فدخل رسول الله على أبي بكر يعوده ، فقال : كيف تجدك يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر :


كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله



قالت : ودخل على عامر بن فهيرة فقال : كيف تجدك ؟ فقال :


وجدت طعم الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه


كالثور يحمي جلده بروقه



قالت : ودخل على بلال فقال : كيف تجدك ؟ فقال :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي إذخر وجليل



وربما قال سفيان بواد :

وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل



فقال رسول الله : اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة ، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لأهل مكة ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا وبارك لنا في مدينتنا قال سفيان : وأراه قال : وفي فرقنا ، اللهم حببها إلينا ضعفي ما حببت إلينا مكة أو أشد ، وصححها وانقل وباءها إلى خم أو الجحفة
.

[ ص: 193 ] هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو كان الداخل على أبي بكر وعلى بلال وعامر بن فهيرة يعودهم ، وهو كان المخاطب لهم ، وشك في قول بلال في البيت الذي أنشده بفخ أو بواد .

وروى ابن إسحاق هذا الحديث عن عبد الله بن عروة ، عن عروة ، ، عن عائشة بمثل رواية ابن عيينة سواء في المعنى ، إلا أنه قال : بفخ من غير شك ولم يقل بواد ، قال الفاكهي : وفخ الوادي الذي بأصل الثنية البيضاء إلى بلدح .

قال أبو عمر : وهو قرب ذي طوى وإياه عنى الشاعر النميري حيث قال :

تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة خفرات
مررن بفخ رائحات عشية يلبين للرحمن معتمرات

ونعمان : وادي عرفات .

وقال آخر :

ماذا بفخ من الإشراق والطيب ومن حوار تقيات رعابيب

وأما قول ابن عيينة : وانقل وباءها إلى خم أو الجحفة ، شك ، فإن خم أيضا من الجحفة قريب ، وقال ابن إسحاق في حديثه : وانقل وباءها إلى مهيعة وهي الجحفة .

وقد روى ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الشعر تفلة أخرجت من المدينة فأسكنت مهيعة ، فأولتها وباء المدينة ينقلها الله [ ص: 194 ] إلى مهيعة ، وفي هذا الحديث بيان ما هو متعارف حتى الآن من تنكر البلدان على من لم يعرف هواها ولم يغذ بمائها ، وفيه عيادة الجلة السادة لإخوانهم ومواليهم الصالحين ، وفي فضل العيادة آثار كثيرة قد وقعت في مواضعها من هذا الكتاب .

وفيه سؤال العليل عن حاله بكيف تجدك ؟ وكيف أنت ؟ ونحو ذلك ، وفيه أن إشارة المريض إلى ذكر ما يجد ليس بشكوى ، وإذا جاز استخبار العليل جاز إخباره عما به ، ومن رضي فله الأجر والرضى ، ومن سخط فله السخط والبلوى .

وفيه إجازة إنشاد الشعر والتمثل به واستماعه ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده ، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا ؟ وما استنشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنشد بين يديه أكثر من أن يحصى ، ولا ينكر الشعر الحسن أحد من أولي العلم ، ولا من أولي النهى .

قال آخر :


ماذا بفخ من الإشراق والطيب ومن حوار تقيات رعابيب



وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر وتمثل به ، أو سمعه فرضيه ، وذلك ما كان حكمة أو مباحا من القول ، ولم يكن فيه فحش ولا خنى ولا لمسلم أذى ، فإن كان ذلك فهو والمنثور من الكلام سواء لا يحل سماعه ولا قوله .

حدثنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا ابن الأعرابي قال : حدثنا الزعفراني ، حدثنا سفيان بن عيينة ، ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن [ ص: 195 ] أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يقول : أصدق أو أشعر كلمة قالتها العرب قول لبيد :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل



وروينا من وجوه ، عن ابن سيرين ، وكان من الورع بمنزلة ذهبت مثلا أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر ، فقال : ويلك يا لكع ، وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ، فحسنه حسن ، وقبيحه قبيح . قال : وقد كانوا يتذاكرون الشعر ، قال : وسمعت ابن عمر ينشد :


يحب الخمر من مال الندامى ويكره أن تفارقه الفلوس



حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سعيد بن السكن ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، أخبرنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، ، عن الزهري قال : أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره ، أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره ، أن أبي بن كعب أخبره ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن من الشعر حكمة .

وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعراء يناضلون عنه ويردون عنه الأذى ، وهم حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وفيهم نزلت ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ؛ لأنه لما نزلت ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول [ ص: 196 ] الله ، قد أنزل الله هذا ( في ) الشعراء ، فنزلت ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنتم هم ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنتم هم . وفي هذا دليل على أن الشعر لا يضر من آمن وعمل صالحا وقال حقا ، وأنه كالكلام المنثور يؤجر منه المرء على ما يؤجر منه ، ويكره له منه ما يكره منه ، والله أعلم .

قال أبو عمر : وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا فأحسن ما قيل في تأويله - والله أعلم - أنه الذي قد غلب الشعر عليه فامتلأ صدره منه دون علم سواه ، ولا شيء من الذكر غيره ممن يخوض به في الباطل ويسلك به مسالك لا تحمد له ، كالمكثر من الهذر واللغط والغيبة وقبيح القول ، ولا يذكر الله كثيرا ، وهذا كله مما اجتمع العلماء على معنى ما قلت منه ، ولهذا قلنا فيما روي عن ابن سيرين والشعبي ومن قال بقولهما من العلماء : الشعر كلام ، فحسنه حسن ، وقبيحه قبيح - أنه قول صحيح - ، وبالله التوفيق .

وأما قوله في حديث مالك : فرفع بلال عقيرته ، فمعناه رفع بالشعر صوته كالمتغني به ترنما ، وأكثر ما تقول العرب : رفع عقيرته لمن رفع بالغناء صوته .

وفي هذا الحديث دليل على أن رفع الصوت بإنشاد الشعر مباح ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على بلال رفع عقيرته بالشعر ، وكان بلال قد حمله على ذلك شدة تشوقه إلى وطنه فجرى في ذلك على عادته ، فلم ينكر رسول [ ص: 197 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ( عليه ) ، وهذا الباب من الغناء قد أجازه العلماء ووردت الآثار عن السلف بإجازته ، وهو يسمى غناء الركبان وغناء النصب والحداء ، هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء .

روى ابن وهب ، عن أسامة وعبد الله ابني زيد بن أسلم ، ، عن أبيهما زيد بن أسلم ، ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال : الغناء من زاد الراكب ، أو قال : زاد المسافر .

أخبرنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : قال عمر : نعم ؛ زاد الراكب الغناء نصبا .

وأخبرنا أحمد ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثني أبي قال : سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن صالح بن كيسان ، ، عن عبيد الله بن عبد الله قال : رأيت أسامة بن زيد مضطجعا على باب حجرته رافعا عقيرته يتغنى .

قال : وحدثنا ابن بشار ، أخبرنا أبو عاصم ، أخبرنا ابن جريج قال : قال ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز أن محمد بن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد واضعا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى النصب .

وروى شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه أخبره أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعا عقيرته يتغنى ، قال عبد الله بن عتيبة : لا والله ، ما رأيت رجلا أخشى لله من عبد الله بن الأرقم ، وقد ذكر أهل الأخبار أن عمر بن الخطاب أتى دار عبد الرحمن بن عوف فسمعه يتغنى بالركبانية :


وكيف ثوائي بالمدينة بعدما قضى وطرا منها جميل بن معمر

[ ص: 198 ] هكذا ذكر هذا الخبر الزبير بن بكار وذكره المبرد مقلوبا أن عبد الرحمن سمع ذلك من عمر ، والصواب ما قاله الزبير ، والله أعلم .

حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا محمد بن جرير ، حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج قال : سألت عطاء عن الحداء والشعر والغناء ، قال ابن إدريس : يغني غناء الركبان ، فقال : لا بأس به ما لم يكن فحشا ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدأ له في السفر ، روي ذلك من حديث ابن مسعود وابن عباس .

وروى شعبة ، عن ثابت البناني ، عن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير ومعهم حاد وسائق .

حدثنا أحمد بن محمد قراءة مني عليه أن أحمد بن الفضل بن العباس حدثهم قال : حدثنا محمد بن جرير بن يزيد قال : حدثنا مجاهد بن موسى قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : كان البراء جيد الحداء ، وكان حادي الرجال ، وكان الجثمة يحدو بالنساء ، فحدا ذات ليلة فأعنقت الإبل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ويحك يا أنجشة ، رويدا سوقك بالقوارير ، وقد حدا به - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن رواحة وعامر بن سنان وجماعة ، فهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء إذا كان الشعر سالما من الفحش والخنى .

وأما الغناء الذي كرهه العلماء ، فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء وإفساد وزن الشعر والتمطيط به طلبا للهو والطرب وخروجا عن مذاهب العرب ، والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء هم كرهوا هذا النوع من الغناء ، وليس منهم يأتي شيئا ، وهو ينهى عنه .

[ ص: 199 ] روى شعبة وسفيان ، عن الحكم وحماد ، عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب .

وروى ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن كثير بن زيد أنه سمع عبيد الله بن عبد الله بن عمر يقول للقاسم بن محمد : كيف ترى في الغناء ؟ فقال القاسم : هو باطل ، قال : قد عرفت أنه باطل ، فكيف ترى فيه ؟ قال القاسم : أرأيت الباطل أين هو ؟ قال : في النار ، قال : فهو ذاك .

وروي من حديث أنس وحديث عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : معنى ما أقول لك صوتان ملعونان فاجران أنهي عنهما : مزمار ورنة شيطان عند نغمة ونوح ، ورنة عند مصيبة ولطم وجوه وشق جيوب . فهذا ما أتى في كراهية الغناء ، وقد أتى ما هو أثبت من هذا من جهة الإسناد في خصوص الرخصة في ذلك في الأعياد والإملاك خاصة

روى ابن شهاب وهشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان في يوم عيد ، أو في أيام منى ويضربان بالدف ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع ذلك ولا ينهاهما ، فانتهرهما أبو بكر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد .

وفي كلا الوجهين آثار عن السلف كثيرة تركت ذكرها ؛ لأن مدار الباب كله على ما أوردنا فيه ، والله أسأله العصمة والتوفيق .

وقد رويت الرخصة في الألحان التي تعرفها العرب ورفع العقيرة بها دون ألحان الأعاجم المكروهة عن جماعة من علماء السلف لو ذكرناهم لطال الكتاب بذكرهم ، وحسبك منهم بسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وهما ممن يضرب المثل بهما ، ذكر وكيع محمد بن خلف قال : حدثني عبد الله بن سعد قال : حدثني الحسن بن علي بن منصور قال : أخبرني أبو عتاب ، عن [ ص: 200 ] إبراهيم بن محمد بن العباس المطلبي ، أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحدي يتغنى في دار العاصي بن وائل :


تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت به زينب في نسوة خفرات



فضرب سعيد برجله ، وقال هذا والله ما يلذ استماعه ، ثم قال :

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها وأبدت بنان الكف بالجمرات
وعلت بنان المسك وحفا مرجلا على مثل بدر لاح في ظلمات
وقامت ترائي يوم جمع فأفتنت برؤيتها من راح من عرفات



قال : فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب .

قال أبو عمر : يحفظ لسعيد أبيات كثيرة وتمثل أيضا بأبيات لغيره كثيرة ، وليس هذا في شعر النميري ، والذي حفظناه من شعر النميري ورويناه ليس فيه هذه الأبيات فهي لسعيد ، والله أعلم .

والنميري هذا ليس هو من بني نمير ، إنما هو ثقفي ، وهو محمد بن عبد الله نسب إلى جده .

وروى قتيبة بن سعيد ، عن أبي بكر بن شعيب بن الحجاب المعولي ، عن أبيه قال : كنت عند ابن سيرين ، فجاءه إنسان يسأله عن شيء من الشعر قبل صلاة العصر ، فأنشده ابن سيرين :


كأن المدامة والزنجبيل وريح الخزامى وذوب العسل
يعل به برد أنيابها إذا النجم وسط المساء اعتدل


[ ص: 201 ] وقال : الله أكبر ، ودخل في الصلاة ،

وهذا الشعر أيضا للنميري المذكور في زينب أخت الحجاج التي له فيها الشعر الثاني أوله :

ألا من لقلب معنى غزل يحب المحلة أخت المحل
تراءت لنا يوم فرع الأراك بين العشاء وبين الأصل
كأن القرنفل والزنجبيل وريح الخزامى وذوب العسل
يعل به برد أنيابها إذا ما صفا الكوكب المعتدل



وقد مضى في مواضع من هذا الكتاب في أمر استتار النساء والحجاب وفضائل المدينة ما يغني ، عن تكريره في هذا الباب والحمد لله .




الخدمات العلمية