الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل فالغفلة والشهوة أصل الشر . قال تعالى { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل . وإلا فصاحب الهوى ، إذا علم قطعا أن ذلك يضره ضررا راجحا : انصرفت نفسه عنه بالطبع .

                فإن الله تعالى جعل في النفس حبا لما ينفعها ، وبغضا لما يضرها . فلا تفعل ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا . بل متى فعلته كان لضعف العقل . ولهذا يوصف هذا بأنه عاقل ، وذو نهى ، وذو حجا .

                ولهذا كان البلاء العظيم من الشيطان . لا من مجرد النفس . فإن [ ص: 290 ] الشيطان يزين لها السيئات . ويأمرها بها ، ويذكر لها ما فيها من المحاسن . التي هي منافع لا مضار . كما فعل إبليس بآدم وحواء . فقال { يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما } { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } . ولهذا قال تعالى { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } { وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } وقال تعالى { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } وقال تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } .

                وقوله { زينا لكل أمة عملهم } هو بتوسيط تزيين الملائكة ، والأنبياء ، والمؤمنين للخير . وتزيين شياطين الجن والإنس للشر . قال تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } فأصل ما يوقع الناس في السيئات : الجهل ، وعدم العلم بكونها تضرهم ضررا راجحا ، أو ظن أنها تنفعهم نفعا راجحا . ولهذا قال [ ص: 291 ] الصحابة رضي الله عنهم " كل من عصى الله فهو جاهل " وفسروا بذلك قوله تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } كقوله { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } ولهذا يسمى حال فعل السيئات : الجاهلية . فإنه يصاحبها حال من حال جاهلية . قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ؟ { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } فقالوا : كل من عصى الله فهو جاهل .

                ومن تاب قبيل الموت : فقد تاب من قريب . وعن قتادة قال " أجمع أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو في جهالة ، عمدا كان أو لم يكن .

                وكل من عصى الله فهو جاهل " وكذلك قال التابعون ومن بعدهم . قال مجاهد : من عمل ذنبا - من شيخ ، أو شاب - فهو بجهالة . وقال : من عصى ربه فهو جاهل . حتى ينزع عن معصيته . وقال أيضا : هو إعطاء الجهالة العمد . وقال مجاهد أيضا : من عمل سوءا خطأ ، أو إثما عمدا : فهو جاهل . حتى ينزع منه . رواهن ابن [ ص: 292 ] أبي حاتم . ثم قال : وروي عن قتادة ، وعمرو بن مرة ، والثوري ، ونحو ذلك " خطأ ، أو عمدا " . وروي عن مجاهد والضحاك قالا : ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا حراما .

                ولكن من جهالته : حين دخل فيه . وقال عكرمة : الدنيا كلها جهالة وعن الحسن البصري : أنه سئل عنها ؟ فقال : هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم . قيل له : أرأيت لو كانوا قد علموا ؟ قال : فليخرجوا منها . فإنها جهالة . قلت : ومما يبين ذلك : قوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وكل من خشيه ، وأطاعه ، وترك معصيته : فهو عالم . كما قال تعالى { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }

                . وقال رجل للشعبي : أيها العالم . فقال : إنما العالم من يخشى الله . قوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } يقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم . فإنه لا يخشاه إلا عالم . [ ص: 293 ] ويقتضي أيضا : أن العالم من يخشى الله . كما قال السلف . قال ابن مسعود " كفى بخشية الله علما ، وكفى بالاغترار جهلا " . ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين . حصر الأول في الثاني . وهو مطرد ، وحصر الثاني في الأول نحو قوله { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } وقوله { إنما أنت منذر من يخشاها } وقوله { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون } { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } . وذلك : أنه أثبت الخشية للعلماء ، ونفاها عن غيرهم . وهذا كالاستثناء . فإنه من النفي : إثبات ، عند جمهور العلماء . كقولنا " لا إله إلا الله " قوله تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقوله { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقوله { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا }

                . وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه . لم يثبت له ما ذكر . ولم ينف عنه . وهؤلاء يقولون ذلك في صيغة الحصر بطريق الأولى . فيقولون : نفى الخشية عن غير العلماء ، ولم يثبتها لهم . [ ص: 294 ] والصواب : قول الجمهور . أن هذا كقوله { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق } فإنه ينفي التحريم عن غير هذه الأصناف ويثبتها لها . لكن أثبتها للجنس . أو لكل واحد من العلماء ؟ كما يقال : إنما يحج المسلمون . ولا يحج إلا مسلم .

                وذلك أن المستثنى هل هو مقتض أو شرط ؟ . ففي هذه الآية وأمثالها : هو مقتض . فهو عام . فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف . فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات . وترك السيئات . وكل عاص فهو جاهل .

                ليس بتام العلم . يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل ، وعدم العلم . وإذا كان كذلك . فعدم العلم ليس شيئا موجودا . بل هو مثل عدم القدرة ، وعدم السمع والبصر ، وسائر الأعدام . والعدم : لا فاعل له . وليس هو شيئا . وإنما الشيء الموجود . والله تعالى خالق كل شيء . فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله . لكن قد يقترن به ما هو موجود . فإذا لم يكن عالما بالله ، لا يدعوه إلى الحسنات ، وترك السيئات .

                والنفس بطبعها متحولة . فإنها حية . والإرادة والحركة الإرادية من [ ص: 295 ] لوازم الحياة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { أصدق الأسماء : حارث وهمام } فكل آدمي حارث وهمام . أي عامل كاسب ، وهو همام . أي يهم ويريد . فهو متحرك بالإرادة .

                وقد جاء في الحديث { مثل القلب : مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة وللقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا } . فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها . فإذا هداها الله : علمها ما ينفعها وما يضرها . فأرادت ما ينفعها ، وتركت ما يضرها .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية