الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] 149 - باب بيان مشكل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في تركه أخذ ميراث مولاه الذي سقط من نخلة فمات فأمره بدفع ميراثه إلى أهل قريته

976 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا بشر بن عمر الزهراني ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن مجاهد بن وردان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أن مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي فقال : هاهنا أحد من أهل قريته ؟ فأعطاه إياه .

977 - حدثنا علي بن شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن مجاهد ، عن عروة ، عن عائشة أن مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقع من نخلة ، فمات فقال النبي [ ص: 6 ] - صلى الله عليه وسلم - : انظروا هل له وارث ؟ قالوا : لا . قال : أعطوه بعض القرابة .

978 - حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن مجاهد بن وردان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت : وقع مولى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عذق نخلة ، فمات وترك شيئا ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل ترك من ولد أو حميم ؟ قالوا : لا . قال : انظروا أهل قريته فادفعوه إليهم .

979 - حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا عبد الله بن محمد بن تميم ، حدثنا حجاج بن محمد : حدثني شعبة ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن مجاهد بن وردان رجل من أهل المدينة وأثنى عليه خيرا ، عن عروة ، عن عائشة - مثله .

[ ص: 7 ] وقد روى عن مجاهد هذا سوى ابن الأصبهاني ربيعة بن سيف المعافري .

980 - كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا ربيعة بن سيف ، عن مجاهد ، عن عروة ، عن عائشة - أنها كانت عند أبي بكر الصديق حين حضرته الوفاة فتمثلت بهذه الأبيات :

من لا يزال دمعه مقنعا يوشك أن يكون مرة مدفقا

هكذا أخبرناه إبراهيم "مدفقا" ، وأهل العلم بالشعر يقولون : إنه "مدفعا ". فقال : لا تقولي هذا يا بنية ، ولكن قولي : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد .

ثم قال : يا بنية ، في كم كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : في ثلاثة أثواب . قال : كفنوني في ثوبي هذين ، واشتروا إليهما ثوبا ؛ فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت ، إنما هما للمهلة يعني الصديد
.

[ ص: 8 ] هكذا يقول أصحاب الحديث ، وغيرهم من أهل اللغة يقولون : للمهلة - بكسر الميم .

وذكر البخاري أن مجاهدا هذا من أهل المدينة ، وأن مما روى عنه جعفر بن ربيعة .

وقد ذكر عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس أن خارجة بن زيد ومجاهدا كانا يقسمان للناس بالمدينة بغير أجر ، فلم يدر من مجاهد الذي أراده مالك الذي وقفنا على ما ذكرنا ، فعلمنا أنه مجاهد .

وأردنا بما ذكرنا أن يعلم أنه خلاف مجاهد بن جبر ؛ إذ كان مجاهد بن جبر إنما كان يكون مرة بمكة ومرة بالكوفة ، ولا ذكر له في أهل المدينة .

[ ص: 9 ] فقال قائل : ما كان معنى ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراث هذا المتوفى ، وهو مولاه الذي من سببه وجوب ميراث مولى النعمة ، ودفعه إلى أهل المدينة الذين ليسوا من ميراثه في شيء ؟

فكان جوابنا له في ذلك ، بتوفيق الله وعونه - أن الله شرفه - صلى الله عليه وسلم - ، ورفع منزلته وجعله في أعلى مراتب الدنيا والآخرة ، وأخرجه من أخلاق من سواه من أهل الرغبة في الدنيا ، وكان فيما أنزل عليهكلا بل لا تكرمون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين ويأكلون التراث أكلا لما ويحبون المال حبا جما فوصفهم بذلك بأخلاق لا يحمدها ، وجعلهم بذلك في منزلة سفلى .

وأخرجه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إلى أرفع المنازل ، وجعل حكمه مما أخرجه إليه أعلى الأحكام ، فلم يجعله ممن يرث من سواه من ذي نسب ولا ذي ولاء ولا من ذوات تزويج .

وخالف بينه وبين سائر أمته في ذلك زيادة في فضله وفي تشريفه إياه وفي رفعة منزلته فيه ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بذلك في ميراث مولاه الذي ذكر في هذا الحديث لما لم يكن له ولد ولا حميم يستحق ميراثه - أن يدفع ميراثه إلى أهل قريته كما يكون للأئمة في الأموال التي لا مالك لها أن تدفع إلى من يرون دفعها إليه من الناس .

فإن قال قائل : فقد كان من أنبياء الله صلوات الله عليهم يرثون ويورثون ، من ذلك ما حكى جل وعز في كتابه عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - زكريا من [ ص: 10 ] سؤاله إياه أن يهب له من لدنه وليا يرثه ويرث من آل يعقوب - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يجعله نبيا ومن أهل إجابته عز وجل إياه إلى ذلك وهبته له يحيى - صلى الله عليه وسلم - وإصلاحه له زوجه .

فكان جوابنا له بتوفيق الله وعونه أن ما كان من زكريا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مما سأله ربه عز وجل أن يهب له من يرثه ، لم يكن ذلك لمال يرثه عنه وأي مال كان له - صلى الله عليه وسلم - وإنما كان زاهدا نجارا يعمل بيده . !

981 - كما حدثنا محمد بن علي بن داود البغدادي ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، قال أبو جعفر : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كان زكريا عليه السلام نجارا .

قال أبو جعفر : ولما كان نجارا - صلى الله عليه وسلم - ليس من ذوي الأموال عقلنا بذلك أن الذي سأل ربه عز وجل أن يرثه عنه من يهب له غير الأموال وهي النبوة ، كمثل الذي سأله أن يرثه من آل يعقوب - صلى الله عليه وسلم - .

وكذلك سائر أنبياء الله عز وجل صلوات الله عليهم فلم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم .

982 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن داود الخريبي ، عن عاصم بن رجاء بن حيوة ، عن داود بن جميل ، عن كثير بن قيس قال : كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا الدرداء ، جئتك من المدينة مدينة [ ص: 11 ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ولا جئت لحاجة ؟ قال : لا . قال : ولا جئت لتجارة ؟ قال : لا . قال : ولا جئت إلا لهذا الحديث ؟ قال : نعم . قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من سلك طريقا يطلب علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض وكل شيء حتى الحيتان في جوف الماء .

إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وورثوا العلم ؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر
.

[ ص: 12 ] قال أبو جعفر : وزكريا - صلى الله عليه وسلم - منهم ، فلم يورث شيئا من المال .

فإن قال قائل : فقد قال الله عز وجل : وورث سليمان داود فإن ذلك عندنا - والله أعلم - هو ما كانت الأنبياء تورثه مما هو سوى الأموال .

فإن قال : فقد كان سليمان في حياة داود صلى الله عليهما نبيا ؛ فما الذي ورثه عنه ؟ قيل له : ورث عنه حكمته ، وما يورث عن مثله . وكان ذلك مضافا إلى نبوته التي كانت معه قبل ذلك .

فإن قال : فقد ورث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه ، فورث عن أبيه منزله ومملوكته أم أيمن وشقران اللذين أعتقهما موليين له ؟ قيل له : إنما كان ذلك قبل أن يؤتيه الله النبوة ، فلما آتاه إياها أعاد أحكامه إلى الأحكام التي توفاه عليها من منعه الميراث عن غيره ، ومن منع غيره الميراث عنه .

وإنما يرث الناس من حيث يرثون ، فإذا كان - صلى الله عليه وسلم - غير موروث كان غير وارث ، وفيما ذكرنا بيان لما وصفنا ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية