الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون

قوله تعالى: "أتواصوا به" توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم على تفرق أزمانهم، أي: إنهم لم يتواصوا لكنهم فعلوا فعلا كأنه فعل من يتواصى، والعلة في ذلك أن جميعهم طاغ، والطاغي: المستعلي في الأرض المفسد العاتي على الله.

قوله تعالى: "فتول عنهم" أي: عن الحرص المفرط عليهم وذهاب اليقين حسرات، ويحتمل أن يراد: فقول عن التعب المفرط في دعائهم وضمهم إلى الإسلام، فلست بمصيطر عليهم ولست بملوم إذ قد بلغت، فنح نفسك عن الحزن عليهم وذكر فقط فإن الذكرى نافعة للمؤمنين ولمن قضي له أن يكون منهم في ثاني حال، وعلى هذا التأويل فلا نسخ في الآية إلا في معنى الموادعة التي فيها: فإن آية السيف نسخت جميع الموادعات، وروى قتادة -وذكره الطبري - عن علي رضى الله تعالى عنه أنه لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم حزن المسلمون وظنوا أنه مر بالتوالي عن الجميع وأن الوحي قد انقطع، حتى نزلت وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين فسروا بذلك.

قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، اختلف الناس في معناه مع [ ص: 82 ] إجماع أهل السنة على أن الله تعالى لم يرد أن تقع العبادة من الجميع; لأنه تعالى لو أراد ذلك لم يصح أن يقع الأمر بخلاف إرادته، فقال علي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله عنهم: المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلا لأمرهم بعبادتي وليقروا لي بالعبودية، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: "ليعبدون"; إذ العبادة هي مضمون الأمر، وقال زيد بن أسلم وسفيان : المعنى خاص، والمراد وما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلا لعبادتي، ويؤيد هذا التأويل أن ابن عباس رضي الله عنهما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: "وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدوني"، وقال ابن عباس أيضا معنى "ليعبدون"; ليتذللوا لي ولقدرتي وإن لم يكن ذلك على قوانين الشرع، وعلى هذا التأويل

فجميع الجن والإنس عابد متذلل، والكفار كذلك، ألا تراهم عند القحوط والأمراض وغير ذلك؟ وتحتمل الآية أن يكون المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا معدين ليعبدوني، وكأن الآية تعديد نعمة، أي: خلقت لهم حواس وعقولا وأجساما منقادة لحق العبادة وهذا كما تقول: البقر مخلوق للحرث، والخيل للحرب، وقد يكون منها ما لا يحرث وما لا يحارب به أصلا، فالمعنى أن الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة، لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وقوله: "كل مولود يولد على الفطرة"...الحديث.

وقوله تعالى: "من رزق" أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم، وقوله تعالى: أن يطعمون إما أن يكون المعنى: أن يطعموا خلقي، فأضيف إلى الضمير على جهة التجوز، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وإما أن يكون الإطعام هنا بمعنى النفع على العموم، كما تقول: أعطيت فلانا كذا وكذا طعمة، وأنت قد أعطيته عرضا أو بلدا يجيبه، ونحو هذا، على الجميع. وقرأ الجميع: "إن الله هو الرزاق"، وروى أبو إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن زيد، قال أبو عمرو الداني : عن ابن مسعود قال: أقرأني [ ص: 83 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أنا الرزاق"، وقرأ جمهور القراء: "المتين" بالرفع، إما على أنه خبر بعد خبر، أو صفة لـ "الرزاق"، وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش : "المتين" بالخفض على النعت لـ "القوة"، وجاز ذلك من حيث تأنيث "القوة" غير حقيقي، فكأنه قال: ذو الأيد والحبل، ونحوه قوله تعالى: فمن جاءه موعظة ، وجوز أبو الفتح أن يكون خفض "المتين" على الجواز و" المتين": الشديد.

قوله تعالى: فإن للذين ظلموا ، يريد تعالى أهل مكة، وهذه آية وعيد صراح، وقرأ الأعمش : "فإن للذين كفروا"، و"الذنوب": الحظ والنصيب، وأصله من الدلو، وذلك أن الذنوب هو ملء الدلو من الماء، وقيل: الذنوب: الدلو العظيمة، ومنه قول الشاعر:


إنا إذا نازلنا غريب له ذنوب ولنا ذنوب

    فإن أبيتم فلنا القليب



وهو السجل، ومنه قول علقمة بن عبدة:


وفي كل حي يوم قد خبطت بنعمة     فحق لشأس من نداك ذنوب



[ ص: 84 ] فروى أن الملك لما سمع هذا البيت قال: نعم وأذنب، ومنه قول حسان :


لا تبعدن ربيعة بن مكدم     وسقى الغوادي قبره بذنوب



و"أصحابهم" يراد به من تقدم من الأمم المعذبة، قوله تعالى: "فلا يستعجلون" تحقيق للأمر، بمعنى: هو نازل بهم لا محالة في وقته المعلوم، فلا يستعجلوه، وقرأ ابن وثاب : "فلا تستعجلون" بالتاء من فوق، وبه قرأت فرقة، والباقون بالياء.

ثم أوجب تعالى لهم الويل من يومهم الذي يأتي فيه عذابهم، و"الويل": الشقاء والهم، وروي أن في جهنم واديا يسمى ويلا، والطبري يذهب أبدا إلى أن التوعد إنما هو به، وذلك في هذا الموضع قلق، لأن هذا الويل إنما هو من يومهم الذي هو في الدنيا، و"من" لابتداء الغاية، وقال جمهور المفسرين: هذا التوعد هو بيوم القيامة، وقال آخرون -ذكره الثعلبي -: هو يوم بدر، وفي "يوعدون" ضمير عائد على الكلام، التقدير: يوعدون به، أو يوعدونه.

تم تفسير سورة [الذاريات] والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية