الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون

[ ص: 302 ] فيه سبع مسائل :

الأولى : قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة آدم وجعل منها زوجها يعني حواء ليسكن إليها ليأنس بها ويطمئن ، وكان هذا كله في الجنة .

فلما تغشاها ثم ابتدأ بحالة أخرى هي في الدنيا بعد هبوطهما فقال : فلما تغشاها كناية عن الوقاع . حملت حملا خفيفا كل ما كان في بطن أو على رأس شجرة فهو حمل بالفتح . وإذا كان على ظهر أو على رأس فهو حمل بالكسر . وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر . وقال أبو سعيد السيرافي : يقال في حمل المرأة حمل وحمل ، يشبه مرة لاستبطانه بحمل المرأة ، ومرة لبروزه وظهوره بحمل الدابة . والحمل أيضا مصدر حمل عليه يحمل حملا : إذا صال .

فمرت به يعني المني ; أي استمرت بذلك الحمل الخفيف . يقول : تقوم وتقعد وتقلب ، ولا تكترث بحمله إلى أن ثقل ; عن الحسن ومجاهد وغيرهما . وقيل : المعنى فاستمر بها الحمل ، فهو من المقلوب ; كما تقول : أدخلت القلنسوة في رأسي . وقرأ عبد الله بن عمر " فمارت به " بألف والتخفيف ; من مار يمور إذا ذهب وجاء وتصرف . وقرأ ابن عباس ويحيى بن يعمر " فمرت به " خفيفة من المرية ، أي شكت فيما أصابها ; هل هو حمل أو مرض ، أو نحو ذلك .

الثانية : قوله تعالى فلما أثقلت صارت ذات ثقل ; كما تقول : أثمر النخل . وقيل : دخلت في الثقل ; كما تقول : أصبح وأمسى .

دعوا الله ربهما الضمير في دعوا عائد على آدم وحواء . وعلى هذا القول ما روي في قصص هذه الآية أن حواء لما حملت أول حمل لم تدر ما هو . وهذا يقوي قراءة من قرأ " فمرت به " بالتخفيف . فجزعت بذلك ; فوجد إبليس السبيل إليها . قال الكلبي : إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال : ما هذا الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري ! قال : إني أخاف أن يكون بهيمة . فقالت ذلك لآدم عليه السلام . فلم يزالا في هم من ذلك . ثم عاد إليها فقال : هو من الله بمنزلة ، فإن دعوت الله فولدت إنسانا أفتسمينه بي ؟ قالت نعم . قال : فإني أدعو الله . فأتاها وقد ولدت فقال : سميه باسمي . فقالت : وما اسمك ؟ قال : الحارث - ولو سمى لها نفسه لعرفته - فسمته عبد الحارث . ونحو هذا مذكور من ضعيف الحديث ، في الترمذي [ ص: 303 ] وغيره . وفي الإسرائيليات كثير ليس لها ثبات ; فلا يعول عليها من له قلب ، فإن آدم وحواء عليهما السلام وإن غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، على أنه قد سطر وكتب : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض . وعضد هذا بقراءة السلمي " أتشركون " بالتاء .

ومعنى " صالحا " يريد ولدا سويا .

فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء ، وهي :

الثالثة : قال المفسرون : كان شركا في التسمية والصفة ، لا في العبادة والربوبية . وقال أهل المعاني : إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحارث ، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له ، لا على أن الضيف ربه ; كما قال حاتم :

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تيك من شيمة العبد

وقال قوم : إن هذا راجع إلى جنس الآدميين والتبيين عن حال المشركين من ذرية آدم عليه السلام ، وهو الذي يعول عليه . فقوله : جعلا له يعني الذكر والأنثى الكافرين ، ويعني به الجنسين . ودل على هذا فتعالى الله عما يشركون ولم يقل يشركان . وهذا قول حسن . وقيل : المعنى هو الذي خلقكم من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد وجعل منها زوجها أي من جنسها فلما تغشاها يعني الجنسين . وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية ; فإذا آتاهما الولد صالحا سليما سويا كما أراداه صرفاه عن الفطرة إلى الشرك ، فهذا فعل المشركين . قال صلى الله عليه وسلم ما من مولود إلا يولد على الفطرة - في رواية : على هذه الملة - وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه . قال عكرمة : لم يخص بها [ ص: 304 ] آدم ، ولكن جعلها عامة لجميع الخلق بعد آدم . وقال الحسين بن الفضل : وهذا أعجب إلى أهل النظر ; لما في القول الأول من المضاف من العظائم بنبي الله آدم . وقرأ أهل المدينة وعاصم " شركا " على التوحيد . وأبو عمرو وسائر أهل الكوفة بالجمع ، على مثل فعلاء ، جمع شريك . وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى ، وهي صحيحة على حذف المضاف ، أي جعلا له ذا شرك ; مثل " واسأل القرية " فيرجع المعنى إلى أنهم جعلوا له شركاء .

الرابعة : ودلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض . روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال : أول الحمل يسر وسرور ، وآخره مرض من الأمراض . وهذا الذي قاله مالك : " إنه مرض من الأمراض " يعطيه ظاهر قوله : دعوا الله ربهما وهذه الحالة مشاهدة في الحمال ، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة ; كما ورد في الحديث . وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله . ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه . وقال أبو حنيفة والشافعي : وإنما يكون ذلك في الحامل بحال الطلق ، فأما قبل ذلك فلا . واحتجوا بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة . قلنا : كذلك أكثر الأمراض غالبه السلامة ، وقد يموت من لم يمرض . الخامسة : قال مالك : إذا مضت للحامل ستة أشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها إلا في الثلث . ومن طلق زوجته وهي حامل طلاقا بائنا فلما أتى عليها ستة أشهر فأراد ارتجاعها لم يكن له ذلك ; لأنها مريضة ونكاح المريضة لا يصح . قال يحيى : وسمعت مالكا يقول في الرجل يحضر القتال : إنه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له أن يقضي في ماله شيئا إلا في الثلث ، وإنه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال . ويلتحق بهذا المحبوس للقتل في قصاص . وخالف في هذا أبو حنيفة والشافعي وغيرهما . قال ابن العربي : وإذا استوعبت النظر لم ترتب في أن المحبوس على القتل أشد حالا من المريض ، وإنكار ذلك غفلة في النظر ; فإن سبب الموت موجود عندهما ، كما أن المرض سبب الموت ، قال الله تعالى : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون . وقال رويشد الطائي :

يا أيها الراكب المزجي مطيته     سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا     قولا يبرئكم إني أنا الموت

[ ص: 305 ] ومما يدل على هذا قوله تعالى : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر . فكيف يقول الشافعي وأبو حنيفة : الحال الشديدة إنما هي المبارزة ; وقد أخبر الله عز وجل عن مقاومة العدو وتداني الفريقين بهذه الحالة العظمى من بلوغ القلوب الحناجر ، ومن سوء الظنون بالله ، ومن زلزلة القلوب واضطرابها ; هل هذه حالة ترى على المريض أم لا ؟ هذا ما لا يشك فيه منصف ، وهذا لمن ثبت في اعتقاده ، وجاهد في الله حق جهاده ، وشاهد الرسول وآياته ; فكيف بنا ؟

السابعة : وقد اختلف علماؤنا في راكب البحر وقت الهول ; هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل . فقال ابن القاسم : حكمه حكم الصحيح . وقال ابن وهب وأشهب : حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر . قال القاضي أبو محمد : وقولهما أقيس ; لأنها حالة خوف على النفس كإثقال الحمل . قال ابن العربي : وابن القاسم لم يركب البحر ، ولا رأى دودا على عود . ومن أراد أن يوقن بالله أنه الفاعل وحده لا فاعل معه ، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلق لموقن بها ، ويتحقق التوكل والتفويض فليركب البحر .

التالي السابق


الخدمات العلمية