الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          135 - فصل

                          فإن قال : " كلما أسلمت واحدة اخترتها " ، فقال الأصحاب : لا يصح لأن الاختيار لا يصح تعليقه على الشروط ، ولا يصح في غير [ ص: 752 ] معين ، ويحتمل أن يصح ، ولا يمتنع تعليق الاختيار على الشرط ، كما يصح تعليق الجعالة ، والولاية ، والوكالة ، والعتق ، والطلاق ، وكذلك يصح أيضا تعليق الرجعة بالشرط ، وإن قال كثير من أصحابنا وغيرهم : لا يصح .

                          والأصل في الشروط الصحة ، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا ، وكذلك الهبة يجوز تعليقها بالشرط كما ثبت ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك " .

                          وكذلك هبة الثواب يجوز تعليقها بالشرط ، نحو : اللهم إن كنت قبلت مني هذا العمل فاجعل ثوابه لفلان .

                          وكذلك الدعاء في صلاة الجنازة يجوز تعليقه بالشرط نحو : اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه .

                          [ ص: 753 ] وكذلك الإبراء يجوز تعليقه بالشرط ، وقد نص عليه أحمد ، والعجب ممن منع تعليقه ، وهو إسقاط محض ، فهو كالطلاق ، والعتق .

                          وكذلك الفسوخ كلها يجوز تعليقها بالشرط .

                          وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أميركم زيد ، فإن قتل ، فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة " .

                          وفي " سنن أبي داود " من حديث طارق بن المرقع أنه قال : " من [ ص: 754 ] [ ص: 755 ] يعطي رمحا بثوابه ؟ فقال له رجل : وما ثوابه ؟ قال : أزوجه أول بنت تكون لي " .

                          فلما ولدت طلبها منه بعد كبرها فحلف ألا يعطيها إياه إلا بصداق آخر ، وحلف الزوج ألا يصدقها غير ذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أرى أن تتركها " ثم قال : " لا تأثم ولا يأثم صاحبك "
                          ولم ينكر عليه الشرط ولم يقل له : لا نكاح بينكما .

                          وقد نص أحمد ، وقبله ابن عباس على جواز تعليق النكاح بالشرط ، وهذا هو الصحيح .

                          فقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن الرجل تزوج المرأة على أنه إن جاء بالمهر إلى كذا وكذا ، وإلا فلا نكاح بيننا ؟ فقال : لا أدري ، فقيل له : حديث ابن عباس : النكاح ثابت ، والشرط فاسد ؟ قال : نعم .

                          ونقل عنه ابن منصور : إذا قال : " إن جئت بالمهر إلى كذا وكذا ، وإلا فليس بيننا نكاح " فالنكاح والشرط جائزان ، وهذا هو الذي تقتضيه [ ص: 756 ] أصوله وقواعد مذهبه ، ومن ضعف هذه الرواية لم يضعفها بما يقتضي تضعيفها .

                          وغاية ما قالوا : إن النكاح مما لا يدخله الخيار ، فشرطه فيه يفسده كالصرف والسلم ، فيقال : نقنع منكم بسؤال المطالبة ، وهو تأثير الوصف في الأصل ، وثبوته في الفرع ، ثم نتبرع بالفرق بأن السلم ، والصرف يجب تسليم العوض فيه في مجلس العقد بخلاف النكاح .

                          قالوا : الخيار ينفي الإباحة في وقت يقتضي إطلاق العقد ثبوته ، فصار كما لو تزوجها شهرا ، وحقيقة هذا القياس التسوية بين العقد المطلق والمقيد ، وهذا منتقض بسائر الشروط التي ثبتت في العقد المقيد دون المطلق ، ثم يقال : كون العقد المطلق لا يقتضي ثبوتها لا يقتضي أن العقد المقيد لا يقتضي ثبوتها ، بل مقتضى العقد المقيد ما قيد به ، فهذا إذن مقتضى هذا العقد ، وإن لم يكن مقتضى العقد المطلق .

                          قالوا : فقد قال أحمد في رواية حنبل : المتعة حرام وكل نكاح فيه وقت أو شرط فهو فاسد .

                          قيل : هذا لفظ عام ، وما ذكرناه عنه فهو خاص ، وكلام " المغني " [ ص: 757 ] يقيد مطلقه بمقيده ، وخاصه بعامه ، كيف وقد علم من مذهبه تخصيص هذا العام ؟ فإنه يصحح النكاح ألا يخرجها من دارها ، وألا يتزوج ولا يتسرى عليها ، ومتى فعل ذلك فلها الخيار ، وهذا نظير إن جاءها بالمهر إلى وقت كذا ، وإلا فلها الخيار ، فالصواب التسوية بينهما .

                          وقوله : " كل نكاح فيه وقت أو شرط فهو فاسد " إنما أراد به شرط التحليل كما صرح به في غير موضع ، ولهذا قرنه بالمتعة ، والجامع بينهما أن المستمتع ، والمحلل لا غرض لهما في نكاح الرغبة .

                          فإن قيل : قياس قواعده وأصوله بطلان هذا النكاح المشروط فيه الخيار ؛ لأنه قد أبطل نكاح المحلل لما فيه من الشرط المانع من لزومه ، قيل : هو لم يبطل نكاح المحلل لذلك ، وإنما أبطله لأنه نكاح محرم ، ملعون فاعله ، منهي عنه ، ولهذا لو قصد بقلبه التحليل ، ولم يشرطه ، أو شرط أن يحلها للأول فقط ، ولم يشرط طلاقها ، كان نكاحا باطلا مع أنه لا شرط هناك يمنع لزومه .

                          وأحمد عنه في هذه المسألة ثلاث روايات منصوصات :

                          الأولى : صحة النكاح ، والشرط - وهي أنص الروايات عنه ، وأصرحها ، نقلها ابن منصور كما تقدم .

                          [ ص: 758 ] و

                          [ الثانية : ] صحة النكاح ، وفساد الشرط كما نقل الأثرم .

                          و

                          [ الثالثة : ] فساد الشرط والنكاح ، وهي التي نقلها حنبل باللفظ العام .

                          والمقصود أن تعليق الاختيار على الإسلام يصح ، ويصح تعليق الفسخ أيضا على الشرط ، وهو أولى بالصحة لأنه إزالة ملك ، فهو كتعليق الطلاق والعتاق .

                          وقال أصحابنا : لا يصح ، ولهم في صحة تعليق الطلاق هاهنا وجهان : فإذا قال : " كل من تمسكت بدينها فهي طالق " فهل يصح ؟ ! على وجهين : ووجه البطلان أن الطلاق يتضمن الاختيار ، وهو مما لا يصح تعليقه بالشرط ، والمقدمتان ممنوعتان كما تقدم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية