الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قوله أتباع الرسل الذين تلقوا هذا الباب عنهم أثبتوا لله صفة الكلام كما أثبتوا له سائر الصفات ، ومحال قيام هذه الصفة بنفسها كما يقوله بعض المكابرين أنه خلق الكلام لا في محل ، ومحال قيامها بغير الموصوف بها كما يقوله المكابر الآخر أنه خلق في محل فكان هو المتكلم به دون المحل ، قالوا والكلام الحقيقي هو الذي يوجد بقدرة المتكلم وإرادته قائما به ، لا يعقل غير هذا ، وأما ما كان موجودا بدون قدرته ومشيئته وإن سمع منه فإنه ليس بكلام له ، وإنما هو مخلوق خلقه الله فيه ، فلو كان ما قام بالرب تعالى من الكلام غير متعلق بمشيئته بل يتكلم بغير اختياره لم يكن هذا هو الكلام المعهود ، بل هذا شيء آخر غير ما يعرفه العقل ويشهد به الشرع ، قالوا : ولو لم يكن هناك ألفاظ مسموعة حقيقة السمع لم يكن ثم صفة كلام البتة ، ولو كان عاجزا عن الكلام في الأزل لم يصر قادرا عليه فيما لم يزل ، فإنه إذا كانت حاله قبل وبعد سواء وهو لم يستفد صفة الكلام من غيره ، فمن المستحيل أن تجدد له هذه الصفة بعد أن كان فاقدا لها بالكلية .

وكذلك إثبات قدم عين كل فرد من أنواع الكلام وبقائه أزلا وأبدا واقتران حروفه بعضها ببعض بحيث لا يسبق شيء منها لغيره ، لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة وقد دلت النصوص النبوية أنه متكلم إذا شاء بما شاء ، وأن كلامه يسمع ، وأن القرآن العزيز الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات عين كلامه حقا ، لا تأليف ملك ولا [ ص: 500 ] بشر ، وأنه سبحانه الذي قاله بنفسه : ( المص ) ، ( حم عسق ) ، ( كهيعص ) وأن القرآن جميعه ، حروفه ومعانيه نفس كلامه الذي تكلم به ، وليس بمخلوق ولا بعضه قديما ، وهو المعنى وبعضه مخلوق ، وهو الكلمات والحروف ، ولا بعضه كلامه وبعضه كلام غيره ، ولا ألفاظ القرآن وحروفه ترجمة ترجم بها جبرائيل أو محمد عليهما السلام عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم الله بها ، بل القرآن جميعه كلام الله ، حروفه ومعانيه ، تكلم الله به حقيقة ، والقرآن اسم لهذا النظم العربي الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عن رب العالمين .

فللرسولين منه مجرد التبليغ والأداء ، لا الوضع والإنشاء ، كما يقول أهل الزيغ والاعتداء ، فكتاب الله عندهم غير كلامه ، كتابه مخلوق وكلامه غير مخلوق ، والقرآن إن أريد به الكتاب كان مخلوقا ، وإن أريد به الكلام كان غير مخلوق ، وعندهم أن الذي قال السلف هو غير مخلوق هو عين القائم بالنفس وأما ما جاء به الرسول وتلاه على الأمة فمخلوق ، وهو عبارة عن ذلك المعنى ، وعندهم أن الله تعالى لم يكلم موسى ، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس من غير أن يسمع منه كلمة واحدة ، وما يقرؤه القارئون ويتلوه التالون فهو عبارة عن ذلك المعنى ، وفرعوا على هذا الأصل فروعا : منها : أن كلام الله لا يتكلم به غيره ، فإنه عين القائم بنفسه ، ومحال قيامه بغيره فلم يتل أحد قط كلام الله ولا قرأه .

ومنها : أن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كلام الله إلا على سبيل المجاز .

ومنها : أنه لا يقال إن الله تكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول ولا خاطب ولا يخاطب ، فإن هذه كلها أفعال إرادية تكون بالمشيئة ، وذلك المعنى صفة أزلية لا يتعلق بالمشيئة .

ومنها : أنهم قالوا لا يجوز أن ينزل القرآن إلى الأرض ، فألفاظ النزول والتنزيل لا حقيقة لشيء منها عندهم .

ومنها : أن القرآن القديم لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا عشر ولا جزء له البتة .

ومنها : أن معنى الأمر هو معنى النهي ، ومعنى الخبر والاستخبار ، وكل ذلك معنى واحد بالعين .

[ ص: 501 ] ومنها : أن نفس التوراة هي نفس القرآن ونفس الإنجيل والزبور ، والاختلاف في التأويلات فقط .

ومنها : أن هذا القرآن العربي تأليف جبرائيل أو محمد أو مخلوق خلقه الله تعالى في اللوح المحفوظ ، فنزل به جبرائيل من اللوح لا من الله على الحقيقة كما هو معروف من أقوالهم .

ومنها : أن ذلك العين القديم يجور أن تتعلق به الإدراكات الخمس فيسمع ويرى ويشم ويذاق ويلمس إلى غير ذلك من الفروع الباطلة سمعا وعقلا وفطرة .

وقد دل القرآن وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته ، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته ، وهي صفة ذات وفعل قال الله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ، وقوله : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) فإذا : تخلص الفعل للاستقبال ( وأن ) كذلك ( ونقول ) فعل دال على الحال والاستقبال ( وكن ) حرفان يسبق أحدهما الآخر ، فالذي اقتضته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر .

وكذلك قوله : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ) الآية ، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن ، وكذلك قوله : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) وإنما قال لهم اسجدوا بعد خلق آدم وتصويره .

وكذلك قوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ) الآيات كلها ، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت .

وكذلك قوله : ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن ) والذي ناداه هو الذي قال له : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) وكذلك قوله : ( ويوم يناديهم فيقول ) [ ص: 502 ] وقوله : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) وقوله : ( يوم نقول لجهنم ) الآية ، ومحال أن يقول سبحانه لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد قبل خلقها ووجودها .

وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره ونصوص السنة ، ولا سيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج وغيرها ، كقوله : " أتدرون ماذا قال ربكم الليلة " ، وقوله : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة " ، وقوله : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب " .

وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، ويكلمهم يوم القيامة ، ويكلم أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ ويكلم أهل الجنة في الجنة ويسلم عليهم في منازلهم ، وأنه كل ليلة يقول : من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا " ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه وقال له : تمن علي .

إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي إن دفعت دفعت الرسالة بأجمعها ، وإن كانت مجازا كان الوحي كله مجازا ، وإن كانت من المتشابه كان الوحي كله من المتشابه ، وإن وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة على خلاف ظاهره ، فإن مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعدد أنواعها واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر ، وأوضح من كل واضح ، فكم جهد ما يبلغ التأويل والتحريف والحمل على المجاز .

[ ص: 503 ] هب أن ذلك يمكن في موضع واثنين وثلاثة وعشرة ، أفيسوغ حمل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعة آلاف موضع كلها على المجاز وتأويل الجميع بما يخالف الظاهر ؟ ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاث آلاف ، فكل آية وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول ، وكل أثر فيه ذلك ، إذا استقرئت زادت على هذا العدد ، ويكفي أحاديث الشفاعة وأحاديث الرؤية وأحاديث الحساب ، وأحاديث تكليم الله لملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة ، وأحاديث تكليم الله لموسى ، وأحاديث تكلمه عند النزول الإلهي ، وأحاديث تكلمه بالوحي ، وأحاديث تكليمه للشهداء ، وأحاديث تكليم كافة عباده يوم القيامة بلا ترجمان ولا واسطة ، وأحاديث تكليمه للشفعاء يوم القيامة حين يأذن لهم في الشفاعة ، إلى غير ذلك ، إذ كل هذا وأمثاله وأضعافه مجاز لا حقيقة له ، سبحانك هذا بهتان عظيم ، بل نشهدك ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد ، وأن البحر لو أمده من بعده سبعة أبحر ، وكانت أشجار الأرض أقلاما يكتب بها ما تتكلم به ، لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلماتك ، وأنك لك الخلق والأمر ، فأنت الخالق حقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية