الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون ) .

( الكرب العظيم ) تعبد القبط لهم ، ثم خوفهم من جيش فرعون ، ثم البحر بعد ذلك ، والضمير في ( ونصرناهم ) عائد على موسى وهارون وقومهما ; وقيل : عائد على موسى وهارون فقط ، تعظيما لهما بكناية الجماعة . و ( هم ) يجوز أن يكون فصلا وتوكيدا أو بدلا . و ( الكتاب المستبين ) التوراة ، كما قال تعالى ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) . و ( الصراط المستقيم ) هو الإسلام وشرع الله . و ( إلياس ) ، قال ابن مسعود وقتادة : هو إدريس عليه السلام . ونقلوا عن ابن مسعود ، وابن وثاب ، والأعمش ، والمنهال بن عمر ، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرءوا : وإن إدريس لمن المرسلين ، وهي محمولة عندي على تفسيره ; لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ ( وإن إلياس ) وأيضا تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه ; لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح . وفي سورة الأنعام ذكر إلياس ، وأنه من ذرية إبراهيم ، [ ص: 373 ] أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ) ، ( ومن ذريته داود ) ، وذكر في جملة هذه الذرية إلياس ، وقيل : إلياس من أولاد هارون . قال الطبري : هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون . وقرأ الجمهور ( وإن إلياس ) ، بهمزة قطع مكسورة . وقرأ عكرمة ، والحسن : بخلاف عنهما ; والأعرج ، وأبو رجاء ، وابن عامر ، وابن محيصن : بوصل الألف ، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع ، واحتمل أن يكون اسمه ياسا ، ودخلت عليه ( أل ) ، كما دخلت على اليسع . وفي حرف أبي ومصحفه : وإن إيليس ، بهمزة مكسورة ، بعدها ياء ساكنة ، بعدها لام مكسورة ، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة . وقرئ : وإن إدراس ، لغة في إدريس ، كإبراهام في إبراهيم .

( أتدعون بعلا ) أي أتعبدون بعلا ، وهو علم لصنم لهم ، قاله الضحاك والحسن وابن زيد . قيل : وكان من ذهب ، طوله عشرون ذراعا ، وله أربعة أوجه ، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس ، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام ، وبه سميت مدينتهم بعلبك . وقال عكرمة ، وقتادة : البعل : الرب بلغة اليمن . وسمع ابن عباس رجلا ينشد ضالة ، فقال له رجل : أنا بعلها ، فقال ابن عباس : الله أكبر ، أتدعون بعلا ؟ ويقال : من بعل هذه الدار ، أي ربها ؟ والمعنى على هذا : أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله ؟ وقالت فرقة : إن بعلا اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها . وقرئ : أتدعون بعلاء ، بالمد على وزن حمراء ، ويؤنس هذه القراءة قول من قال : إنه اسم امرأة .

وقرأ الكوفيون ، وزيد بن علي ( الله ربكم ورب آبائكم ) ، بالنصب في الثلاثة بدلا من ( أحسن ) أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة ، وباقي السبعة بالرفع ، أي هو الله ، أو يكون استئنافا مبتدأ وربكم خبره . وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب ، وإذا قطع رفع . ( فكذبوه ) أي كذبه قومه ، إما في قوله ( الله ربكم ) هذه النسبة ، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والإيمان بما جاءت به الرسل . ومحضرون : مجموعون للعذاب . ( إلا عباد الله المخلصين ) استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه ، فهو استثناء متصل من ضمير ( فكذبوه ) ولا يجوز أن يكون استثناء من ( فإنهم لمحضرون ) لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب ، ويكونون ( عباد الله المخلصين ) وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا ، إذ يصير المعنى : لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب ، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه .

وقرأ زيد بن علي ، ونافع ، وابن عامر : على آل ياسين . وزعموا أن آل مفصولة في المصحف ، وياسين اسم لإلياس . وقيل : اسم لأبي إلياس ; لأنه إلياس بن ياسين ، وآل ياسين هو ابنه إلياس . وقيل : ياسين هو اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - وقرأ باقي السبعة ( على إل ياسين ) بهمزة مكسورة ، أي إلياسين ، جمع المنسوبين إلى إلياس معه ، فسلم عليهم . وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين ، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس ، فلما جمعت ، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف ، فالتقى ساكنان : الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع ، فحذفت لالتقائهما ، كما قالوا : الأشعرون والأعجمون والخبيبون والمهلبون . وحكى أبو عمرو أن مناديا نادى يوم الكلاب : هلك اليزيديون . وقال الزمخشري : لو كانا جمعا ، لعرف بالألف واللام . وقرأ أبو رجاء ، والحسن : على الياسين ، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون ، وحذفت ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرون ، والألف واللام دخلت على الجمع ، واسمه على هذا ( ياس ) . وقرأ ابن مسعود ، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس : سلام على إدراسين . وعن [ ص: 374 ] قتادة : وإن إدريس . وقرأ علي إدرسين . وقرأ ابن علي : إيليس ، كقراءته وإن إيليس لمن المرسلين . ( إلا عجوزا ) هي امرأة لوط ، وكانت كافرة ، إما مستترة بالكفر ، وإما معلنة به . وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزا . ( مصبحين ) أي داخلين في الإصباح . والخطاب في ( وإنكم ) لقريش ، وكانت متاجرهم إلى الشام على مدائن قوم لوط . ( أفلا تعقلون ) فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل .

التالي السابق


الخدمات العلمية