الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

عطف على " ود كثير " وما بينهما من قوله فاعفوا واصفحوا الآية اعتراض كما تقدم . والضمير لأهل الكتاب كلهم من اليهود والنصارى بقرينة قوله بعده " إلا من كان هودا أو نصارى ومقول القول مختلف باختلاف القائل فاليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، والنصارى قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فجمع القرآن بين قوليهما على طريقة الإيجاز بجمع ما اشتركا فيه وهو نفي دخول الجنة عن المستثنى منه المحذوف لأجل تفريع الاستثناء . ثم جاء بعده تفريق ما اختص به كل فريق وهو قوله هودا أو نصارى [ ص: 673 ] فكلمة أو من كلام الحاكي في حكايته وليست من الكلام المحكي فأو هنا لتقسيم القولين ليرجع السامع كل قول إلى قائله والقرينة على أن أو ليست من مقولهم المحكي أنه لو كان من مقولهم لاقتضى أن كلا الفريقين لا ثقة له بالنجاة وأنه يعتقد إمكان نجاة مخالفه ، والمعلوم من حال أهل كل دين خلاف ذلك فإن كلا من اليهود والنصارى لا يشك في نجاة نفسه ولا يشك في ضلال مخالفه وهي أيضا قرينة على تعيين كل من خبري كان لبقية الجملة المشتركة التي قالها كل فريق بإرجاع هودا إلى مقول اليهود وإرجاع نصارى إلى مقول النصارى .

فأو هاهنا للتوزيع وهو ضرب من التقسيم الذي هو من فروع كونها لأحد الشيئين وذلك أنه إيجاز مركب من إيجاز الحذف لحذف المستثنى منه ولجمع القولين في فعل واحد وهو قالوا ومن إيجاز القصر لأن هذا الحذف لما لم يعتمد فيه على مجرد القرينة المحوجة لتقدير وإنما دل على المحذوف من القولين بجلب حرف أو كانت أو تعبيرا عن المحذوف بأقل عبارة فينبغي أن يعد قسما ثالثا من أقسام الإيجاز وهو إيجاز حذف وقصر معا .

وقد جعل القزويني في تلخيص المفتاح هاته الآية من قبيل اللف والنشر الإجمالي أخذا من كلام الكشاف لقول صاحب الكشاف فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين فقوله فلف بين القولين أراد به اللف الذي هو لقب للمحسن البديعي المسمى اللف والنشر ولذلك تطلبوا لهذا اللف نشرا وتصويرا للف في الآية من قوله قالوا مع ما بينه وهو لف إجمالي يبينه نشره الآتي بعده ولذلك لقبوه اللف الإجمالي . ثم وقع نشر هذا اللف بقوله " إلا من كان هودا أو نصارى " فعلم من حرف " أو " توزيع النشر إلى ما يليق بكل فريق من الفريقين . وقال التفتزاني في شرح المفتاح جرى الاستعمال في النفي الإجمالي أن يذكر نشره بكلمة ( أو ) .

والهود جمع هائد أي متبع اليهودية وقد تقدم عند قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية وجمع فاعل على فعل غير كثير وهو سماعي منه قولهم عوذ جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الظباء والخيل والإبل ومنه أيضا عائط وعوط للمرأة التي بقيت سنين لم تلد . وحائل وحول ، وبازل وبزل ، وفاره وفره ، وإنما جاء هودا جمعا مع أنه خبر عن ضميره كان وهو مفرد لأن من مفردا لفظا ومراد به الجماعة فجرى ضميره على مراعاة لفظه وجرى خبرا وضميرا على مراعاة المعنى . والإشارة بتلك إلى القولة الصادرة منهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [ ص: 674 ] كما هو الظاهر فالإخبار عنها بصيغة الجمع إما لأنها لما كانت أمنية كل واحد منهم صارت إلى أماني كثيرة وإما إرادة أن كل أمانيهم كهذه ومعتادهم فيها فيكون من التشبيه البليغ .

والأماني تقدمت في قوله لا يعلمون الكتاب إلا أماني وجملة تلك أمانيهم معترضة . وقوله قل هاتوا برهانكم أمر بأن يجابوا بهذا ولذلك فصله لأنه في سياق المحاورة كما تقدم عند قوله قالوا " أتجعل فيها " الآية وأتى بإن المفيدة للشك في صدقهم مع القطع بعدم الصدق لاستدراجهم حتى يعلموا أنهم غير صادقين حين يعجزون عن البرهان لأن كل اعتقاد لا يقيم معتقده دليل اعتقاده فهو اعتقاد كاذب لأنه لو كان له دليل لاستطاع التعبير عنه ومن باب أولى لا يكون صادقا عند من يريد أن يروج عليه اعتقاده .

و " بلى " إبطال لدعواهما . و " بلى " كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى ، وقول أبي حية النميري :


يخبرك الواشون أن لن أحبكم بلى وستور الله ذات المحارم

وقوله " من أسلم " جملة مستأنفة عن بلى لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله فله أجره هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن من شرطية لا محالة . ومن قدر هنا فعلا بعد بلى أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا .

وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفري :


إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري

[ ص: 675 ] ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأطلق الوجه على الحقيقة تقول : جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى :


وأول الحكم على وجهه     ليس قضاء بالهوى الجائر

ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون أسلم بمعنى أخلص مشتقا من السلامة أي جعله سالما ومنه ورجلا سلما لرجل .

وقوله " وهو محسن " جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير .

وجمع الضمير في قوله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون اعتبارا بعموم من ، كما أفرد الضمير في قوله وجهه لله وهو محسن اعتبارا بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار .

التالي السابق


الخدمات العلمية