الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تحويل القبلة

قرئ على الشيخ أبي عبد الله محمد بن إبراهيم المقدسي وأنا حاضر في الرابعة: أخبركم أبو الحسن علي بن النفيس بن بورنداز، قراءة عليه ببغداد فأقر به، قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا أبو عطاء بن أبي عاصم ، أخبرنا حاتم بن محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو العباس محمد بن محمد بن الحسن الفريزني ، حدثنا أبو جعفر رجاء بن عبد الله بن فورجة ، حدثنا مالك بن سليمان الهروي ، عن يزيد بن عطاء ، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: لقد صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان الله يعلم أنه يحب أن يوجه نحو الكعبة، فلما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إليها صلى رجل معه، ثم أتى قوما من الأنصار وهم ركوع نحو بيت المقدس، فقال لهم وهم ركوع: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه نحو الكعبة، فاستداروا وهم ركوع فاستقبلوها.

رواه البخاري وغيره من حديث أبي إسحاق ، عن البراء.

[ ص: 364 ] ورويناه من طريق ابن سعد: حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء.. الحديث وفيه: وأنه صلى أول صلاة صلاها العصر، وصلاها معه قوم، فخرج رجل ممن صلاها معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت.

وكان يعجبه أن يحول قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.

وفيه: أنه مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى: ( وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) .

وقد اتفق العلماء على أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كانت إلى بيت المقدس، وأن تحويل القبلة إلى الكعبة كان بها، واختلفوا: كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس بعد مقدمه المدينة؟ وفي أي صلاة كان التحويل؟ وفي صلاته عليه الصلاة والسلام قبل ذلك بمكة كيف كانت؟

فأما مدة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بالمدينة فقد رويناه أنه كان ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، أو ثمانية عشر شهرا، وروينا بضعة عشر شهرا.

قال الحربي: ثم قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة، وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر، ثم حولت القبلة في رجب.

وكذلك روينا عن ابن إسحاق، قال: ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في خبر ذكره، وسنذكره بعد تمام هذا الكلام إن شاء الله تعالى.

وقال موسى بن عقبة ، وإبراهيم بن سعد: ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك; أن القبلة صرفت في جمادى. [ ص: 365 ]

وقال الواقدي: إنما صرفت في صلاة الظهر يوم الثلاثاء في النصف من شعبان. كذا وجدته عن أبي عمر بن عبد البر. والذي رويناه عن الواقدي من طريق ابن سعد: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس، قال ابن سعد: وأخبرنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عثمان بن محمد الأخنسي وعن غيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة، فقال: "يا جبريل! وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود". فقال جبريل: إنما أنا عبد، فادع ربك وسله، وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء، فنزلت: ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) فوجه إلى الكعبة، إلى الميزاب. ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه، ودار معه المسلمون، ويقال: بل زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعاما، وحانت الظهر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجه إلى الكعبة، فاستقبل الميزاب، فسمي المسجد مسجد القبلتين، وذلك يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا. وفرض صوم شهر رمضان في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا. قال محمد بن عمر: وهذا الثبت عندنا .

قال القرطبي: الصحيح سبعة عشر شهرا، وهو قول مالك ، وابن المسيب ، وابن إسحاق.

وقد روي ثمانية عشر، وروي بعد سنتين، وروي بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر، والصحيح ما ذكرناه أولا.

وأما الصلاة التي وقع فيها تحويل القبلة، ففي خبر الواقدي هذا أنها الظهر، وقد ذكرنا في حديث البراء قبل هذا أنها العصر. وقد روينا عن ابن سعد، قال: أخبرنا عفان بن [ ص: 366 ] مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزل: ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) فمر رجل بقوم من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر (وقد صلوا ركعة) ، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فمالوا إلى الكعبة .

وروينا عن ابن سعد، قال: أخبرنا الفضل بن دكين ، حدثنا قيس بن الربيع ، حدثنا زياد بن علاقة، عن عمارة بن أوس الأنصاري، قال: صلينا إحدى صلاتي العشي، فقام رجل على باب المسجد ونحن في الصلاة، فنادى: إن الصلاة قد وجهت نحوالكعبة، فتحول أو تحرف إمامنا نحو الكعبة والنساء والصبيان، وليس في هذين الخبرين ما يعارض ما قبلهما لأن بلوغ التحويل غير التحويل.

التالي السابق


الخدمات العلمية