الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (11) قوله تعالى: له الضمير فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه عائد على "من" المكررة، أي: لمن أسر القول ولمن جهر به ولمن استخفى وسرب معقبات، أي: جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضا. الثاني: أنه يعود على "من" الأخيرة، وهو قول ابن عباس. قال ابن عطية: والمعقبات على هذا: "حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه". قالوا: والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبري في "آخرين"، إلا أن الماوردي ذكر على التأويل أن الكلام نفي، والتقدير: لا يحفظونه. وهذا ينبغي أن [لا] يسمع البتة، كيف يبرز كلام موجب ويراد به نفي؟ وحذف "لا" إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعا في جواب قسم نحو: تالله تفتأ وقد تقدم تحريره، وإنما معنى الكلام - كما قال المهدوي - يحفظونه من أمر الله في ظنه وزعمه.

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن الضمير في "له" يعود على الله تعالى ذكره، وفي "يحفظونه" للعبد، أي: لله ملائكة يحفظون العبد من الآفات، ويحفظون عليه أعماله، قاله الحسن.

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع: عود الضميرين على النبي عليه السلام، وإن لم يجر له ذكر قريب، ولتقدم ما يشعر به في قوله: لولا أنزل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 27 ] و معقبات: جمع "معقب" بزنة مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر; لأن بعضهم يعقب بعضا، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به. وقال الزمخشري : "والأصل معتقبات"، فأدغمت التاء في القاف كقوله: وجاء المعذرون ، أي: "المعتذرون"، ويجوز "معقبات" بكسر العين ولم يقرأ به. وقال الشيخ: "وهذا وهم فاحش لا تدغم التاء في القاف، ولا القاف في التاء، لا من كلمة ولا من كلمتين، وقد نص التصريفيون على أن القاف والكاف كل منهما يدغم في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما. وأما تشبيهه بقوله: وجاء المعذرون فلا يتعين أن يكون أصله "المعتذرون" وقد تقدم توجيهه، وأنه لا يتعين ذلك فيه. وأما قوله: ويجوز "معقبات" بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله "متعقبات" فأدغمت التاء في القاف، وقد بينا أن ذلك وهم فاحش.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "معقبات" احتمالان، أحدهما: أن يكون جمع "معقبة" بمعنى معقب، والتاء للمبالغة كعلامة ونسابة، أي: ملك معقب، ثم جمع كعلامات ونسابات. والثاني: أن يكون "معقبة" صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف. وذكر ابن جرير أن "معقبة" جمع معقب، وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات. قال الشيخ: "وليس كما ذكر، إنما ذلك كجمل وجمال [ ص: 28 ] وجمالات، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضاربة وضاربات.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يجاب عنه بأنه يريد بذلك أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث "معقب"، فصار مثل "الواردة" للجماعة الذين يردون، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أن جموع التكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار وعود الضمير، ومنه قولهم: "الرجال وأعضادها"، [و "العلماء ذاهبة إلى كذا" وتشبيهه] ذلك برجل ورجال ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي وإبراهيم وعبيد الله بن زياد "له معاقيب". قال الزمخشري : [جمع معقب أو] معقبة، والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير. قلت: ويوضح هذا ما قاله ابن جني فإنه قال: "معاقيب" تكسير [معقب بسكون العين] وكسر القاف كمطعم ومطاعيم، ومقدم ومقاديم، فكأن معقبا جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في "معاقيب" عوضا من الهاء المحذوفة في معاقبة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 29 ] قوله: من بين يديه يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ "معقبات" ويجوز أن يتعلق بمعقبات، و "من" لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي هو في الظرف الواقع خبرا. والكلام على هذه الأوجه تام عند قوله: ومن خلفه . وعبر أبو البقاء عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة هذا شرحها، وهي قوله: من بين يديه يجوز أن يكون صفة لمعقبات، وأن يكون ظرفا، وأن يكون حالا من الضمير الذي فيه، فعلى هذا يتم الكلام عنده. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يتعلق بـ "يحفظونه"، أي: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. [فإن قلت: كيف يتعلق حرفان] متحدان لفظا ومعنى بعامل واحد: وهما "من" الداخلة على "بين" و "من" الداخلة على "أمر الله"؟ فالجواب أن "من" الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يحفظونه يجوز أن يكون صفة لـ "معقبات"، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستكن في الجار الواقع خبرا. و من أمر الله متعلق به، و "من": إما للسبب، أي: بسبب أمر الله، - ويدل له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة "بأمر الله". وقيل: المعنى على هذا: يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف - وإما أن تكون على بابها. قال أبو البقاء: "من أمر الله"، أي: من الجن والإنس، فتكون "من" على [ ص: 30 ] بابها". يعني أن يراد بأمر الله نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس والجن، فتكون "من" لابتداء الغاية.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أيضا أن تكون بمعنى "عن"، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه صفة لمعقبات أيضا، فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة: بكونها من بين يديه ومن خلفه، وبكونها تحفظه، وبكونها من أمر الله، ولكن يتقدم الوصف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائز فصيح. وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم الفراء وغيره، وأن الأصل: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه، لأن الأصل عدمه مع الاستغناء عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: وإذا أراد العامل في "إذا" محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره: لم يرد، أو وقع، ونحوهما، ولا يعمل فيها جوابها; لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية