الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
822 [ ص: 258 ] حديث ثامن وثلاثون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف : كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن ؟ فقال عبد الرحمن : استلمت وتركت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصبت .

التالي السابق


قال أبو عمر : كان ابن وضاح يقول في موطأ يحيى : إنما الحديث كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن الأسود ؟ وزعم أن يحيى سقط له من كتابه " الأسود " ، وأمر ابن وضاح بإلحاق الأسود في كتاب يحيى ، ولم يرو يحيى " الأسود " ، ولكنه رواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي وجماعة ، وقد روى أبو مصعب وغيره كما روى يحيى لم يذكروا " الأسود " ، وكذلك رواه ابن عيينة وغيره ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه لم يذكروا " الأسود " كما روى يحيى ، وهو أمر محتمل جائز في الوجهين جميعا .

\ورواه الثوري ، عن هشام ، عن أبيه ، فقال فيه : كيف صنعت في استلامك الحجر ؟ وسنذكر في آخر هذا الباب بعض ما ذكرنا من أسانيد هذا الحديث إن شاء الله .

[ ص: 259 ] وقد صنع ابن واضح مثل هذا أيضا في موطأ يحيى في قول مالك : سمعت بعض أهل العلم يستحب إذا رفع الذي يطوف بالبيت يده عن الركن اليماني أن يضعها على فيه ، فأمر ابن وضاح بطرح اليماني من رواية يحيى ، وهذا مما تسور فيه على رواية يحيى وهي أصوب من رواية يحيى ومن تابعه في هذا الموضع ، وكذلك روى ابن وهب وابن القاسم وابن بكير وأبو المصعب وجماعة في هذا الموضع ، عن مالك أنه سمع بعض أهل العلم يستحب إذا رفع الذي يطوف بالبيت يده عن الركن اليماني أن يضعها على فيه ، زاد ابن وهب : من غير تقبيل . وقالوا كلهم : الركن اليماني ، والعجب من ابن وضاح وقد روى موطأ ابن القاسم وفيه اليماني كيف أنكره ؟

وقد روى القعنبي ، عن مالك في ذلك قال : سمعت بعض أهل العلم يستحبون إذا رفع الذي يطوف بالبيت يده عن الركن الأسود أن يضعها على فيه هكذا ، قال القعنبي : الركن الأسود ، وأظن ابن وضاح إنما أنكر اليماني في رواية يحيى ؛ لأنه رأى رواية القعنبي أو من تابع القعنبي على قوله : الأسود ، فمن هناك أنكر اليماني على أن ابن وضاح لم يرو موطأ القعنبي وروى موطأ ابن القاسم وموطأ ابن وهب ، وفيهما جميعا اليماني ، كما روى يحيى وهي بأيدي أهل بلدنا في الشهرة كرواية يحيى ، ولكن الغلط لا يسلم منه ، وأما إدخاله في حديث عبد الرحمن بن عوف : الأسود ، فكذلك رواه أكثر رواة الموطأ ، فابن وضاح في هذا معذور ، ولكنه لم يكن ينبغي له أن يزيد في رواية الرجل ولا يردها إلى رواية غيره ، ففي ذلك من الإحالة ما لا يرضاه أهل الحديث ، وهذا المعنى في الفقه كله جائز عند أهل العلم لا نكير فيه ، فجائز عندهم أن يستلم الركن اليماني والركن الأسود لا يختلفون في شيء من ذلك ، [ ص: 260 ] وإنما الذي فرقوا بينهما فيه التقبيل لا غير ، فرأوا تقبيل الركن الأسود والحجر ولم يروا تقبيل اليماني ، وأما استلامهما جميعا فأمر مجتمع عليه ، وإنما اختلفوا في استلام ، وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك في مواضع من كتابنا ، والحمد لله .

وقد كان عروة بن الزبير وهو راوية هذا الحديث يستلم الأركان كلها ، ذكر مالك في الموطأ ، عن هشام بن عروة أن أباه كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها ، وكان لا يدع الركن اليماني إلا أن يغلب عليه .

وذكر ابن وهب في موطأ مالك ، عن مالك قال : سمعت بعض أهل العلم يستحب إذا رفع الذي يطوف يده على الركن اليماني أن يضعها على فيه من غير تقبيل ، ولا يقبل إلا الركن الأسود يقبل ويستلم باليد وتوضع على الفم ، ولا يقبل اليد فيهما جميعا .

قال أبو عمر : فهذا كله من قول مالك في موطئه من رواية ابن وهب وغيره يبين ما بينا ، وبالله توفيقنا .

وفي استلام الركنين الأسود واليماني آثار ثابتة مسندة ، أحسنها حديث ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين .

قال وأخبر ابن عمر بقول عائشة أن الحجر من البيت ، فقال : إن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك .

[ ص: 261 ] قال أبو عمر : قوله : الركنين اليمانيين ، يريد الركن الأسود واليماني ، ولقد ذكرنا مراتبهما والأحاديث فيهما واختلاف السلف في كيفية استلامهما ، وأخبرنا بأن الفقهاء على استلام الركنين خاصة على حديث ابن عمر وعائشة ، وبسطنا ذلك كله في حديث ابن شهاب وغيره من هذا الكتاب .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة قال وكان عبد الله بن عمر يفعله .

قال أبو عمر : هذا أفضل ما روي في هذا الباب وأولاه وأصحه ، وقد روي ، عن مجاهد وطاوس أنهما كانا يستحبان استلام الركنين الأسود واليماني في كل وتر من الطواف ، روي ذلك عنهما من طرق ، وأما إنكار ابن وضاح لاستلام الركن اليماني فلا وجه له ، اللهم إلا أن يكون أنكر اللفظة في حديث مالك ، عن هشام ، عن أبيه في قصة عبد الرحمن بن عوف دون أن ينكر استلام الركن اليماني ، فإن استلامه لا خلاف بين العلماء فيه . روينا ، عن مجاهد وعطاء : من وضع يده على الركن اليماني ثم دعا استجيب له ، وعن الزبير : الركن اليماني باب من أبواب الجنة ، وفي الترغيب في استلامه آثار كثيرة ، ذكره الخزاعي في كتاب فضائل مكة الكتاب الكبير ، وقد روى عبد الله بن مسلم بن [ ص: 262 ] هرمز ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استلم الركن اليماني قبله ووضع خده الأيمن عليه .

قال أبو عمر : هذا لا يصح ، وإنما المعروف قبل يده ، وإنما يعرف تقبيل الحجر الأسود ووضع الوجه عليه ، وقد جاء هذا الحديث كما ترى ، وليس يعرف بالمدينة العمل به ، فالله أعلم .

حدثنا محمد بن خليفة قال : حدثنا محمد بن نافع المكي قال : حدثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي قال : حدثنا محمد بن علي قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، ، عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف كان إذا أتى الركن فوجدهم يزدحمون عليه استقبله وكبر ودعا ثم طاف ، فإذا وجد خلوة استلمه .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن أبي مسرة قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال : أخبرنا القاسم بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري من ولد أحيحة بن الجلاح ، عن أبي نجيح ، ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : يا أبا محمد ، كيف صنعت حين طفت ؟ قال : استلمت وتركت قال : أصبت .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن محمد بن جامع السكري قراءة عليه من كتابه سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وأنا أسمع قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف صنعت في استلامك الحجر ؟ قال : استلمت وتركت ، قال : أصبت .

[ ص: 263 ] وعند هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع حول الكعبة يستلم الركن بمحجن كراهية أن ينصرف عنه الناس ، وليس هذا عند مالك ، عن هشام .

قال أبو عمر : الاستلام للرجال دون النساء ، ، عن عائشة وعطاء وغيرهما ، وعليه جماعة الفقهاء .




الخدمات العلمية