الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1492 [ ص: 451 ] مسألة :

                                                                                                                                                                                          ومن كان له عند آخر دنانير ، أو دراهم ، أو قمح ، أو شعير ، أو ملح ، أو تمر ، أو غير ذلك ، مما لا يقع فيه الربا أي شيء كان لا تحاش شيئا إما من بيع ، إما من قرض ، أو من سلم ، أو من أي وجه كان ذلك له عنده حالا كان أو غير حال فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا من غير ماله عنده أصلا .

                                                                                                                                                                                          فإن أخذ دنانير عن دراهم ، أو دراهم عن دنانير ، أو شعيرا عن بر ، أو دراهم عن عرض ، أو نوعا عن نوع لا تحاش شيئا : فهو فيما يقع فيه الربا ربا محض ، وفيما لا يقع في الربا حرام بحت وأكل مال بالباطل .

                                                                                                                                                                                          وكل ذلك مفسوخ مردود أبدا محكوم فيه بحكم الغصب ، إلا أن لا يقدر على الانتصاف ألبتة فيأخذ ما أمكنه ، مما يحل ملكه ، لا تحاش شيئا ، بمقدار حقه ، ولا مزيد ، فهذا حلال له .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك : ما ذكرنا قبل من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الذهب ، والفضة ، والبر ، والتمر ، والشعير ، والملح إلا مثلا بمثل عينا بعين ، ثم قال عليه السلام : { فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد }

                                                                                                                                                                                          والعمل الذي وصفنا ليس يدا بيد ، بل أحدهما غائب ولعله لم يخرج من معدنه بعد ، فهو محرم بنص كلامه عليه السلام .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فروينا من طريق مسلم أنا محمد بن رمح أنا الليث بن سعد عن نافع أنه سمع { أبا سعيد الخدري يقول : أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا تبيعوا الورق بالورق ، إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضه على بعض ، ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز ، إلا يدا بيد }

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري أنا حفص بن عمر هو الحوضي أنا شعبة أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت أبا المنهال قال : سألت البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، عن الصرف ؟ فكلاهما يقول : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا } [ ص: 452 ]

                                                                                                                                                                                          وذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه ، وأصحابنا ، إلى جواز أخذ الذهب من الورق ، والورق من الذهب واحتجوا في ذلك : بما رويناه من طريق قاسم بن أصبغ أنا جعفر بن محمد أنا عفان بن مسلم أنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن { ابن عمر قال : قلت : يا رسول الله أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ، وآخذ هذه من هذه ؟ فقال : لا بأس أن تأخذها بسعر يومها }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا خبر لا حجة فيه ، لوجوه : أحدها - أن سماك بن حرب ضعيف يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة وأنه كان يقول له : حدثك فلان عن فلان ؟ فيقول : نعم ، فيم سئل عنه .

                                                                                                                                                                                          وثانيها - أنه قد جاء هذا الخبر بهذا السند ببيان غير ما ذكروا كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا قتيبة أنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن { ابن عمر قال : كنت أبيع الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ؟ فقال : إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس } وهذا معنى صحيح ، وهو كله خبر واحد .

                                                                                                                                                                                          وثالثها - أنه لو صح لهم كما يريدون لكانوا مخالفين له ; لأن فيه اشتراط أخذها بسعر يومها ، وهم يجيزون أخذها بغير سعر يومها ، فقد اطرحوا ما يحتجون به .

                                                                                                                                                                                          ومما يبطل قولهم ههنا أنه قد صح النهي عن بيع الغرر ، وهذا أعظم ما يكون من الغرر ; لأنه بيع شيء لا يدري أخلق بعد أم لم يخلق ؟ ولا أي شيء هو ؟ والبيع لا يجوز إلا في عين معينة بمثلها ، وإلا فهو بيع غرر ، وأكل مال بالباطل ، والسلم لا يجوز إلا إلى أجل : فبطل أن يكون هذا العمل بيعا أو سلما فهو أكل مال بالباطل .

                                                                                                                                                                                          وأيضا فإن هذا الخبر إنما جاء في البيع ، فمن أين أجازوه في القرض ؟ وقد فرق بعض القائلين به بين القرض في البيع في ذلك واحتجوا من فعل السلف في [ ص: 453 ] ذلك : بما روينا من طريق وكيع أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن سعيد مولى الحسن ، قال : أتيت ابن عمر أتقاضاه ؟ فقال لي : إذا خرج خازننا أعطيناك ، فلما خرج بعثه معي إلى السوق وقال : إذا قامت على ثمن فإن شاء أخذها بقيمتها أخذها : ومن طريق الحجاج بن المنهال أنا أبو عوانة أنا إسماعيل السدي عن عبد الله البهي عن يسار بن نمير قال : كان لي على رجل دراهم فعرض علي دنانير فقلت : لا آخذها حتى أسأل عمر فسألته ؟ فقال : ائت بها الصيارفة فأعرضها ، فإذا قامت على سعر ، فإن شئت فخذها ، وإن شئت فخذ مثل دراهمك وصحت إباحة ذلك عن الحسن البصري والحكم وحماد ، وسعيد بن جبير باختلاف عنه ، وطاوس والزهري ، وقتادة ، والقاسم بن محمد واختلف فيه عن إبراهيم ، وعطاء

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وروينا المنع من ذلك عن طائفة من السلف : روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال : إن عمر بن الخطاب قال : لا تبيعوا الذهب بالورق أحدهما غائب والآخر ناجز هذا صحيح .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن عبد الله بن عوف عن ابن سيرين عن عبد الله بن مسعود أنه كان يكره اقتضاء الذهب من الورق ، والورق من الذهب .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا الشيباني هو أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس : أنه كره اقتضاء الذهب من الورق من الذهب وهذا صحيح .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سفيان بن عيينة عن سعد بن كدام قال : حلف لي معن هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود أنه وجد في كتاب أبيه بخطه قال عبد الله بن مسعود : معاذ الله أن نأخذ دراهم مكان دنانير أو دنانير مكان دراهم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم أن عبد الله بن عمر قال له : نهانا أمير المؤمنين يعني أباه أن نبيع الدين بالعين وهذا في غاية الصحة . [ ص: 454 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن زيد أنا أيوب السختياني عن محمد بن سيرين : أن زينب امرأة ابن مسعود باعت جارية لها إما بذهب وإما بفضة فعرض عليها النوع الآخر فسئل عمر ؟ فقال : لتأخذ النوع الذي باعت به .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور أنا خالد بن عبد الله هو الطحان عن الشيباني هو أبو إسحاق عن محمد بن زيد عن ابن عمر فيمن باع طعاما بدراهم ، أيأخذ بالدراهم طعاما ؟ فقال : لا ، حتى تقبض دراهمك ولم يقل ابن عمر بإباحة ذلك في غير الطعام .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن زيد عن ابن عمر فيمن أقرض دراهم أيأخذ بثمنها طعاما ؟ فكرهه

                                                                                                                                                                                          ومن طريق محمد بن المثنى أنا مؤمل بن إسماعيل أنا سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم النخعي أنه كره اقتضاء الدنانير من الدراهم ، والدراهم من الدنانير ، ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار أنا وكيع أنا موسى بن نافع عن سعيد بن جبير أنه كره أن يأخذ الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن علية عن يونس وهو ابن عبيد عن أنس بن سيرين ، قال : قال لي أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : لا تأخذ الذهب من الورق يكون لك على الرجل ولا تأخذن الورق من الذهب

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع بن علي بن المبارك عن يحيى هو ابن أبي كثير عن أبي سلمة هو بن عبد الرحمن بن عوف أنه كره أن يكون لك عند آخر قرض دراهم فتأخذ منه دنانير .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين فيمن كانت له على آخر دراهم فأخذ منها ثم أراد أن يأخذ بقيمتها دنانير فكرهه [ ص: 455 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا مروان بن معاوية هو الفزاري عن موسى بن عبيدة أخبرني عطاء مولى عمر بن عبد العزيز أنه ابتاع من برد مولى سعيد بن المسيب ناقة بأربعة دنانير فجاء يلتمس حقه ؟ فقلت : عندي دراهم ليس عندي دنانير ؟ فقال : حتى أستأمر سعيد بن المسيب فاستأمره ؟ فقال له سعيد : خذ منه دنانير عينا ، فإن أبى فموعده الله ، دعه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن حرملة قال : بعت جزورا بدراهم إلى الحصاد ، فلما حل قضوني حنطة ، وشعيرا ، وسلتا ، فسألت سعيد بن المسيب ؟ فقال : لا يصلح ، لا تأخذ إلا الدراهم .

                                                                                                                                                                                          فهؤلاء : عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر ، والنخعي

                                                                                                                                                                                          وسعيد بن جبير ، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن سيرين ، وابن المسيب

                                                                                                                                                                                          وهذا مما تركوا فيه القرآن في تحريمه أكل المال بالباطل لخبر ساقط مضطرب وقولنا هو أحد قولي الشافعي ، وقول ابن شبرمة

                                                                                                                                                                                          وأما إذا لم يقدر على الانتصاف فقد قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها }

                                                                                                                                                                                          قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }

                                                                                                                                                                                          فهذا عموم لكل ما أمكن الممنوع حقه أن ينتصف به ، أو بأن يوكل غريمه على بيع ماله عنده ، وبأن يبتاع له ما يريد : فهذا جائز وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية