الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
767 [ ص: 289 ] حديث خامس وأربعون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر إلا ثلاثا : إحداهن في شوال ، واثنتين في ذي القعدة .

التالي السابق


وهذا حديث مرسل أيضا عند جميع الرواة عن مالك ، وقد روي مسندا عن عائشة : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال : حدثنا داود بن عبد الرحمن ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين في ذي القعدة وعمرة في شوال .

ورواه هكذا مسندا عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة - يزيد بن سنان الزهاوي ، ومسلم بن خالد الزنجي ، وليس هؤلاء ممن يذكر مع مالك في صحة النقل .

وحدثنا عمر بن حسين قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أبي قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، وإذا ابن عمر جالس إلى حجرة عائشة فسألناه : كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : أربعا ، إحداهن في رجب . فكرهنا أن نرد عليه ، فقال عروة : يا أم المؤمنين ، أما تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن ؟ قالت : ما يقول ؟ قال : يقول اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عمر [ ص: 290 ] إحداهن في رجب ، قالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( عمرة ) إلا وهو شاهده ، وما اعتمر في رجب قط .

قال أبو عمر : روي عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وعائشة ، وإليه ذهب ابن عيينة والزهري وجماعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر : ثلاث مفترقات ، وواحدة مع حجته .

وهذا على مذهب من جعله قارنا أو متمتعا ، وأما من جعله مفردا في حجته فهو ينفي أن تكون عمره إلا ثلاثا ، وقد ذكرنا الآثار في القران والتمتع والإفراد في باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، وأما ابن شهاب وهو أعلم الناس بالسير عندهم فكان يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاثا ، كلهن في ذي القعدة .

حدثنا عمر بن حسين قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال : حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر : اعتمر من الجحفة عام الحديبية فصده الذين كفروا في ذي القعدة سنة ست ، واعتمر من العام المقبل في ذي القعدة من سنة سبع آمنا هو وأصحابه ، ثم اعتمر الثالثة في ذي القعدة سنة ثمان حين أقبل من الطائف من الجعرانة .

حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا محمد بن معمر قال : حدثنا أشهل بن بكار قال : حدثنا وهيب ، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأبي الزبير ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 291 ] اعتمر ثلاث عمر كلها في ذي القعدة ، إحداهن زمن الحديبية ، والأخرى في صلح قريش ، والأخرى مرجعه من الطائف زمن حنين من الجعرانة .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن زكرياء ، ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر ثلاث عمر في ذي القعدة ، كل ذلك يلبي حتى يستلم الحجر .

قال أبو عمر : قد ذكرنا في باب عبد الرحمن بن حرملة من هذا الكتاب ما للعلماء من المذاهب في العمرة ووجوبها ، وهل يعتمر في السنة أكثر من مرة ، فلا معنى لذكر شيء من ذلك هاهنا ، وسيأتي زيادة في باب عمرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر بلاغات مالك إن شاء الله .

وفي اعتمار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال وذي القعدة أوضح الدلائل على رد قول من كره العمرة في أشهر الحج ، على أني لا أعرف أحدا كره ذلك إلا من لا يعد خلافا فيه لشذوذه في ذلك ، وقد شبه عليه بقول عمر - رضي الله عنه - : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر أشهر الحج . وهذا إنما أراد به عمر ندب [ ص: 292 ] الناس إلى إفراد الحج وكراهية التمتع ، فإذا أفرد الإنسان الحج وأتم عليه خرج من شهوره وجازت له العمرة عند عمر وغيره ، وقد بينا هذا المعنى في باب عبد الرحمن بن حرملة ، ولم يختلف العلماء في جواز العمرة في شهور الحج في شوال وذي القعدة وذي الحجة لمن تمتع ، وإن لم يتمتع ، وفي إجماعهم على ما وصفنا دليل على أن معنى قول عمر عندهم ما ذكرنا ، أو على أنهم تركوه ونبذوه ولم يلتفتوا إليه ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عمره في شهور الحج ، وقد صح عن عمر أنه أذن لعمر بن أبي سلمة أن يعتمر في شوال ، فصار ما وصفنا إجماعا صحيحا ، والحمد لله .

وقال أهل العلم : إن عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( في شوال وذي القعدة إنما كانت ليقطع بذلك ما كان عليه المشركون من إنكار العمرة في شهور الحج ) ولهذا ما فسخ أصحابه حجتهم بأمره في عمرة ، ولهذا ما أعمرت عائشة من التنعيم في ذي الحجة ، كل ذلك دفع لما كان المشركون عليه من كراهيتهم العمرة في أشهر الحج ، ألا ترى إلى ما روي من قولهم : إذا دخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر ، وقد ذكرنا هذا الخبر بتمامه في باب ابن شهاب ، والحمد لله .




الخدمات العلمية