الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (31) قوله تعالى: ولو أن قرآنا : جوابها محذوف، أي: لكان هذا القرآن، لأنه في غاية ما يكون من الصحة. وقيل: تقديره: [ ص: 51 ] لما آمنوا. ونقل عن الفراء أن جواب "لو" هي الجملة من قوله: وهم يكفرون ففي الكلام تقديم وتأخير، وما بينهما اعتراض. وهذا في الحقيقة دال على الجواب. وإنما حذفت التاء في قوله "وكلم به الموتى" وثبتت في الفعلين قبله لأنه من باب التغليب; لأن "الموتى" يشمل المذكر والمؤنث.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أفلم ييأس الذين أصل اليأس: قطع الطمع عن الشيء والقنوط فيه. واختلف الناس فيه ههنا: فقال بعضهم: هو هنا على بابه، والمعنى: أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هذه الآيات ليؤمن الكفار، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم ييئسوا من إيمانهم، قاله الكسائي. وقال الفراء: أوقع الله للمؤمنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا فقال: أفلم ييئسوا علما، يقول: أيئسهم العلم مضمرا، كما تقول في الكلام: يئست منك أن لا تفلح، كأنه قال: "علمه علما"، قال: فيئست بمعنى علمت، وإن لم يكن قد سمع، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون "اليأس" في هذه الآية على بابه، وذلك: أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: ولو أن قرآنا على التأويلين في المحذوف المقدر قال في هذه: أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 52 ] وقال الزمخشري : ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء بآمنوا على: أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولهداهم. وهذا قد سبقه إليه أبو العباس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ: ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه: وهو أن الكلام تام عند قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا وهو تقرير، أي: قد يئس المؤمنون من إيمان المعاندين، و أن لو يشاء الله جواب قسم محذوف، أي: وأقسم لو يشاء الله لهدى الناس جميعا، ويدل على هذا القسم وجود "أن" مع "لو"، كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2857 - أما والله إن لو كنت حرا وما بالحر أنت ولا القمين

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2858 - فأقسم أن لو التقينا وأنتم     لكان لكم يوم من الشر مظلم

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر سيبويه أن "أن" تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 53 ] وقال بعضهم: بل هو هنا بمعنى علم وتبين. قال القاسم بن معن وهو من ثقات الكوفيين: "هي لغة هوازن".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الكلبي: هي لغة حي من النخع، ومنه قول رباح بن عدي:


                                                                                                                                                                                                                                      2859 - ألم ييئس الأقوام أني أنا ابنه     وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

                                                                                                                                                                                                                                      وقول سحيم:


                                                                                                                                                                                                                                      2860 - أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني     ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2861 - حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا     غضفا دواجن قافلا أعصامها

                                                                                                                                                                                                                                      ورد الفراء هذا وقال: "لم أسمع يئست بمعنى علمت". ورد عليه: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، ويدل على ذلك قراءة علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه [ ص: 54 ] زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بذيمة: "أولم يتبين"، من تبينت كذا إذا عرفته. وقد افترى من قال: "إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، وكان أصله: "أفلم يتبين" فسوى هذه الحروف فتوهم أنها سين".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : "وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب [كتاب الله الذي لا يأتيه] الباطل من [بين] يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى هذا حتى يبقى بين دفتي الإمام، وكان متقلبا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله، المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها المبنى، هذه والله فرية، ما فيها مرية". وقال الزمخشري أيضا: "وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم، لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف والنسيان والترك لتضمن ذلك".

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتمل في "أن" قولان، أحدهما: أنها المخففة من الثقيلة فاسمها ضمير الشأن، والجملة الامتناعية بعدها خبرها، وقد وقع الفصل بـ "لو"، و "أن" وما في حيزها إن علقناها بـ "آمنوا" تكون في محل نصب أو جر على [ ص: 55 ] الخلاف بين الخليل وسيبويه، إذ أصلها الجر بالحرف، أي: آمنوا بأن لو يشاء الله، وإن علقناها بـ "ييئس" على أنه بمعنى "علم" كانت في محل نصب لسدها مسد المفعولين.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها رابطة بين القسم والمقسم عليه كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أو تحل يجوز أن يكون فاعله ضمير الخطاب [أي:] أو تحل أنت يا محمد، وأن يكون ضمير القارعة، وهذا أبين، أي: تصيبهم قارعة، أو تحل القارعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن جبير ومجاهد: "يحل" بالياء من تحت، والفاعل على ما تقدم: إما ضمير القارعة، وإنما ذكر الفعل لأنها بمعنى العذاب، أو لأن التاء للمبالغة، والمراد قارع، وإما ضمير الرسول، أتى به غائبا. وقرآ أيضا: "من ديارهم" وهي واضحة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية