الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          151 - مسألة : وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا ، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه ، سواء وجدوا ماء آخر أو لم يجدوا غيره ، وفرضهم التيمم حينئذ ، وحلال شربه للرجال والنساء ، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال . ولا يكون فضلا إلا أن يكون أقل مما استعملته منه ، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلا ، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء . وأما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة ، إلا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده ، ولم نجده صحيحا فإن توضأ الرجل والمرأة من إناء واحد أو اغتسلا من إناء واحد يغترفان معا فذلك جائز ، ولا نبالي أيهما بدأ قبل ، أو أيهما أتم قبل . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود هو السجستاني - ثنا محمد بن بشار ثنا أبو داود هو الطيالسي - ثنا شعبة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي حاجب هو سوادة بن عاصم - عن الحكم بن عمرو الغفاري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة } [ ص: 205 ] أخبرني أصبغ قال ثنا إسحاق بن أحمد ثنا محمد بن عمر العقيلي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا معلي بن أسد ثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة } .

                                                                                                                                                                                          ولم يخبر عليه السلام بنجاسة الماء ، ولا أمر غير الرجال باجتنابه ، وبهذا يقول عبد الله بن سرجس والحكم بن عمرو ، وهما صاحبان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه تقول جويرية أم المؤمنين وأم سلمة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب ، وقد روي عن عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول . وقال قتادة : سألت سعيد بن المسيب والحسن البصري عن الوضوء بفضل المرأة ، فكلاهما نهاني عنه . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا . وقد صح { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل مع عائشة رضي الله عنها من إناء واحد معا حتى يقول أبقي لي وتقول له أبق لي } وهذا حق وليس شيء من ذلك فضلا حتى يتركه . هذا حكم اللغة بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                          واحتج من خالف هذا بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس { أن امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم استحمت من جنابة [ ص: 206 ] فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ من فضلها فقالت له : إني اغتسلت فقال : إن الماء لا ينجسه شيء } وبحديث آخر رويناه من طريق الطهراني عن عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة ، مختصر } قال أبو محمد : هكذا في نفس الحديث مختصر . قال أبو محمد : وهذان حديثان لا يصحان ، فأما الحديث الأول فرواية سماك بن حرب ، وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك شعبة وغيره ، وهذه جرحة ظاهرة ( والثاني ) أخطأ فيه الطهراني بيقين ; لأن هذا أخبرناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - ومحمد بن حاتم قال إسحاق أخبرنا محمد بن بكر وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر وهو البرساني ثنا ابن جريج ثنا عمرو بن دينار قال : أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني عن ابن عباس أنه أخبره { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة } . قال أبو محمد : فصح أن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع بإسناده ، وهؤلاء أوثق من الطهراني وأحفظ بلا شك . ثم لو صح هذان الخبران ولم يكن فيهما مغمز لما كانت فيهما حجة ، لأن حكمهما هو الذي كان قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يتوضأ الرجل أو أن يغتسل بفضل طهور المرأة ، بلا شك في هذا ، فنحن على يقين من أن حكم هذين الخبرين منسوخ قطعا ، حين نطق عليه السلام بالنهي عما فيهما ، لا مرية في هذا ، فإذ ذلك كذلك فلا يحل الأخذ بالمنسوخ وترك الناسخ ، ومن ادعى أن المنسوخ قد عاد حكمه ، والناسخ قد بطل رسمه ، فقد أبطل وادعى غير الحق ، ومن المحال الممتنع أن يكون ذلك ولا يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المفترض عليه البيان . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          على أن أبا حنيفة والشافعي - المحتجين بهذين الخبرين - مخالفان لما في أحدهما من قوله عليه السلام { الماء لا ينجس } ومن القبيح احتجاج قوم بما يقرون أنه حجة ثم يخالفونه وينكرون خلافه على من لا يراه حجة . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 207 ] وروينا إباحة وضوء الرجل من فضل المرأة عن عائشة وعلي ، إلا أنه لا يصح فأما الطريق عن عائشة ففيها العرزمي وهو ضعيف ، عن أم كلثوم وهي مجهولة لا يدرى من هي . وأما الطريق عن علي فمن طريق ابن ضميرة عن أبيه عن جده ، وهي صحيفة موضوعة مكذوبة لا يحتج بها إلا جاهل ، فبقي ما روي في ذلك عن ابن سرجس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم ، يصح ذلك عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية