الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1054 حديث تاسع وأربعون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه أنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : يا رسول الله ، إن ناسا من أهل البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري هل سموا الله عليها أم لا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سموا الله عليها ثم كلوا .

التالي السابق


لم يختلف عن مالك فيما علمت في إرسال هذا الحديث ، وقد أسنده جماعة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة .

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا سعيد بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري قال : حدثنا محمد بن عبيد الله قال : حدثنا أسامة بن حفص المدني ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن قوما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا الله ثم كلوا قال : وكانوا حديثي العهد بالكفر ، قال البخاري : تابعه علي ، عن الدراوردي ، وتابعه أبو خالد والطفاوي .

[ ص: 299 ] قال أبو عمر : روى هذا الحديث مرسلا - كما رواه مالك - جماعة منهم ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان ، ورواه مسندا جماعة منهم هؤلاء الذين ذكر البخاري وغيرهم .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين أن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا أنتم عليه وكلوا . وكانوا حديث عهد بالكفر .

وحدثنا محمد بن إبراهيم وإبراهيم بن شاكر قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا حوثرة بن محمد قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة فذكره .

في هذا الحديث من الفقه أن ما ذبحه المسلم ولم يعرف هل سمى الله عليه أم لا ، أنه لا بأس بأكله ، وهو محمول على أنه قد سمى ، والمؤمن لا يظن به إلا الخير ، وذبيحته وصيده أبدا محمول على السلامة حتى يصح ذلك من تعمد ترك التسمية ونحوه ، وقد قيل في معنى هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بأكلها في أول الإسلام قبل أن ينزل عليه ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، وهذا قول ضعيف لا دليل على صحته ، ولا يعرف وجه ما قال قائله . وفي الحديث نفسه ما يرده ؛ لأنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل ، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه ، ومما يدل [ ص: 300 ] أيضا على بطلان ذلك القول أن هذا الحديث كان بالمدينة ، وأن أهل باديتها إليهم أشير بالذكر في ذلك الحديث . ولا يختلف العلماء أن قوله - عز وجل - : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) نزل في سورة الأنعام بمكة ، وأن الأنعام مكية ، فهذا يوضح لك أن الآية قد كانت نزلت عليه بخلاف ظن من ظن ذلك ، والله أعلم .

وقد أجمع العلماء على أن التسمية على الأكل إنما معناها التبرك لا مدخل فيه للذكاة بوجه من الوجوه ؛ لأن الميت لا تدركه ذكاة .

وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة بهذا الحديث وقالوا : لو كانت التسمية واجبة فرضا على الذبيحة لما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكل لحم ذبحته الأعراب بالبادية ، إذ ممكن أن يسموا وممكن أن لا يسموا الله لجهلهم ، ولو كان الأصل ألا يؤكل من ذبائح المسلمين إلا ما صحت التسمية عليه لم يجز استباحة شيء من ذلك إلا بيقين من التسمية ، إذ الفرائض لا تؤدى إلا بيقين ، وإذ الشك والإمكان لا يستباح به المحرمات ، قالوا : وأما قول الله - عز وجل - : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) فإنما خرج على تحريم الميتة وتحريم ما ذبح للنصب وأهل به لغير الله ، وفي ذلك نزلت الآية حين خاصم المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن غالب التمتام قال : حدثنا أمية بن بسطام العيشي ، وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا عمران بن عيينة قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن [ ص: 301 ] سعيد بن جبير ، ، عن ابن عباس قال : خاصمت اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا : نأكل ما قتلنا ، ولا نأكل ما قتل الله ، فأنزل الله تعالى ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ‎ . هكذا في هذا الحديث خاصمته اليهود ، وإنما هو خاصمه المشركون ؛ لأن اليه لا يأكلون الميتة .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا سفيان قال : حدثني هارون بن أبي وكيع عن أبيه ، ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله لا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه .

قال أبو عمر : المخاصمة التي ذكر ابن عباس هي التي قال الله تعالى ( وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ‎يريد قولهم : ما قتللله لستم تأكلونه .

واختلف العلماء فيمن ترك التسمية على الذبيحة والصيد ناسيا أو عامدا ، فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي : إن تركها عمدا لم تؤكل الذبيحة ولا الصيد ، فإن نسي التسمية عند الذبيحة وعند الإرسال على الصيد اختلفا ، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل ، ومن حجة من ذهب إلى ذلك أن تارك التسمية عمدا متلاعب بإخراج النفس على غير شريطتها ، وقد أجمعوا أن من شرائط الذبيحة والصيد التسمية ، فمن استباح ذلك على غير شريطته عامدا دخل في الفسق الذي قال الله : ( وإنه لفسق ) .

[ ص: 302 ] هذا معنى ما احتجوا به ، وقال الشافعي وأصحابه : تؤكل الذبيحة والصيد في الوجهين جميعا تعمد ذلك أو نسيه ، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة ، وروي عن ابن عباس وأبي وائل قالا : إنما ذبحت بدينك .

واحتج من ذهب هذا المذهب بأن قال : لما كان المجوسي لا ينتفع بتسميته إن سمى وتعمد ذلك وقصد إليه ، فكذلك لا يضر المسلم ترك التسمية ؛ لأنه إنما ذبح بدينه .

وقال أبو ثور وداود بن علي : من ترك التسمية عامدا أو ناسيا لم تؤكل ذبيحته ولا صيده .

قال أبو عمر : ما أعلم أحدا من السلف روي عنه هذا المذهب إلا محمد بن سيرين والشعبي ونافعا مولى ابن عمر ، وأما جمهور العلماء فعلى قول مالك والثوري وأبي حنيفة ، وعلى قول الشافعي على هذين القولين الناس .

وقد روي عن الشعبي خلاف ما حكيناه عنه ، ذكر بقي قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن عامر في رجل ذبح ونسي أن يسمي قال : يأكل . وعن يحيى بن عبد الحميد الجماني ، عن ابن المبارك ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن في رجل ذبح ونسي أن يسمي الله ، قالا : يأكل .

وروى إسماعيل بن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن قالا : إذا نسي الرجل أن يسمي عن ذبح فليأكل وليذكر اسم الله في قلبه ، وهذا هو الصحيح عن الحسن وسعيد بن المسيب .

وروى ابن سوار وعمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : من نسي التسمية إذا ذبح فليأكل ، ومن تركها متعمدا فلا يأكل ، وسفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم مثله .

[ ص: 303 ] وروى ابن أبي غنية ومسعد ، عن الحكم بن عتبة ، ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : إذا ذبح ونسي أن يسمي فكل ، فإما ذبح بملته وإنما هي الملة ذكاة كل قوم ملتهم ، ألا ترى أن المجوسي لو ذبح فسمى الله لم يأكل ؟

وذكر وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة بن كميل ، ، عن أبي مالك في الرجل يذبح وينسى أن يسمي ، قال : لا بأس به ، قلت : فأين قول الله ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ؟ قال : إنما ذبحت بدينك ، وإنما هذا في ذبائح المشركين .

وعن ابن عباس من طرق شتى مثل ذلك .




الخدمات العلمية