الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

                          كان كل ما تقدم من أول السورة في أحكام قتال المشركين وما يتعلق بهم ، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهي إليها ، وهي تمهيد للكلام في غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب بالشام ، والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين ، وهتك الأستار عن إسرارهم للكفر ، ومن تمحيص المؤمنين ، ولم يقاتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها الروم الذين خرج لقتالهم بسببه الذي سيذكر بعد ، وإنما حكمة وقوع ذلك ببيان هذه الأحكام والتنزيل بين المؤمنين والمنافقين ممن كانت تقع عليهم أحكام الإسلام قبل وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام .

                          [ ص: 248 ] وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن زيد ـ رضي الله عنه ـ في هذه الآية ، قال لما فرغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قتال من يليه من العرب أمره ( تعالى ) بجهاد أهل الكتاب .

                          وروى ابن المنذر عن ابن شهاب قال : أنزلت في كفار قريش والعرب وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ( 8 : 39 ) وأنزلت في أهل الكتاب : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : حتى يعطوا الجزية فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران ، قبل وفاته عليه أفضل الصلاة والسلام .

                          وروى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ بن حبان والبيهقي في سننه عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية حين أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغزوة تبوك وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن مجاهد أيضا قال : " يقاتل أهل الأوثان على الإسلام . ويقاتل أهل الكتاب على الجزية " .

                          وروى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن الحسن قال : قاتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده جهاد آخر على هذه الآية في شأنه أهل الكتاب : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله الآية ( أقول ) وهذا أصح وأدق مما قبله من رأي مجاهد ومن وافقه من الفقهاء في قتال الوثنيين ، وأنه لا فرق بينهم وبين مشركي العرب في الحجاز والجزيرة ، فقد بينا مرارا أن سياسة الإسلام في عرب الجزيرة خاصة بهم وبها .

                          واعلم أن هذه الآية في قتال أهل الكتاب وما قبلها في قتال مشركي العرب ليس أول ما نزل في التشريع الحربي ، وإنما هو في غايته ، وأما أول ما نزل في ذلك فقد بينا مرارا أنه آيات سورة الحج : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( 22 : 39 ) إلخ . ثم قوله تعالى من سورة البقرة وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ( 2 : 190 ) الآيات ، وفي تفسيرها ما اختاره شيخنا من أن القتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، ولذلك اشترط فيه أن يقدم عليه الدعوة إلى الإسلام ، وقال : إن غزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت كلها دفاعا ، وكذلك حروب الصحابة في الصدر الأول ، ثم كان القتال بعد ذلك من ضرورة الملك ، وكان في الإسلام مثال الرحمة والعدل [ راجع ص 168 - 170 ج 2 ط الهيئة ] وسنفصل ذلك بعد تفسير هذه الآية .

                          قال تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب فوصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم أربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام ، ووجوب خضوعهم لحكمه في داره ; لأن إقرارهم على الاستقلال ، وحمل السلاح فيه يفضي إلى قتال المسلمين في دارهم [ ص: 249 ] أو مساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم وجعلهم حلفاء له ، وسمح لهم بالحكم فيما بينهم بشرعهم فوق السماح لهم بأمور العبادة كما تقدم في سورة الأنفال [ ص41 - 52 ج 10 ط الهيئة ] وكما فعل نصارى الروم في حدود البلاد العربية كما يأتي عند الكلام على غزوة تبوك . وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هي أصول الدين الإلهي عند كل أمة كما بينه تعالى في آية ( 2 : 62 ) وقد أمر هنا بقتال الذين لا يقيمونها عندما يقوم السبب الشرعي لقتالهم حتى يعطوا الجزية بشرطها فذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، ووضع تركهم لتحريم ما حرم الله ورسوله ، وترك الخضوع لدين الحق في موضع العمل الصالح من تلك الآية وسيأتي الكلام فيه .

                          وإنك ترى في بعض كتب التفسير المتداولة أن هذه الآية تدل على عدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر إلخ . وزعم بعضهم أنها نص في ذلك ، وغرضهم من هذا أن هذه الصفات ليست قيودا في شرعية قتالهم بل هي بيان للواقع لا مفهوم لها ، فلا يقال : إنه إذا وجد من أهل الكتاب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويحرم ما حرم الله ورسوله إليهم - على المختار من أن المراد بالرسول عند كل منهم رسولهم ، ويدين دين الحق باعتقادهم - فإنهم لا يدخلون في هذا الحكم ، وقالوا : إن أولئك الذين دلت آية سورة البقرة على إقامتهم لأركان الدين الإلهي هم الذين كانوا متبعين لأنبيائهم في زمانهم ، أو قبل تحريفهم لكتابهم ، والابتداع في دينهم حتى الشرك ، أو الذين اتبعوا خاتم الرسل الذي نسخ كتابه الكتب التي قبله ، والشرائع المخالفة لشرعه بعد بعثته وبلوغ دعوته ، وقد بينا هذه الأقوال في تفسير تلك الآية ، وصرح الفخر الرازي بأن هذه الصفات السلبية قيود تشترط في قتالهم ، ولكنهم فاقدون لها ، فإن وجد منهم قوم متصفون بها حرم علينا بدؤهم بالقتال .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية