الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية السادسة عشرة قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } . فيها ثلاث مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إن القارئ إذا فرغ من قراءة القرآن حينئذ يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . وقال العلماء : إذا أراد قراءة القرآن تعوذ بالله ، وتأولوا ظاهر " إذا قرأت " على أنه إذا أردت ، كما قال : { إذا قمتم إلى الصلاة } معناه ، إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وكقوله : إذا أكلت فسم الله ; معناه : إذا أردت الأكل . وحقيقة القول فيه أن قول القائل " فعل " يحتمل ابتدأ الفعل ، ويحتمل تماديه في الفعل ، ويحتمل تمامه للفعل . وحقيقته تمام الفعل وفراغه عندنا ، وعند قوم أن حقيقته كان في الفعل ، والذي رأيناه أولى ; لأن بناء الماضي هو فعل ، كما أن بناء الحال هو يفعل ، وهو بناء المستقبل بعينه .

                                                                                                                                                                                                              ويخلصه للحال تعقيبه بقولك الآن ، ويخلصه للاستقبال قولك سيفعل ، هذا منتهى الحقيقة فيه . وإذا قلنا : قرأ ، بمعنى أراد ، كان مجازا ، ووجدنا مستعملا ، وله مثال فحملناه عليه . فإن قيل : وما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان وقت القراءة ؟ وهي : [ ص: 158 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قلنا : فائدته امتثال الأمر ; وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء في امتثالها أمرا ، أو اجتنابها نهيا . وقد قيل : فائدتها الاستعاذة من وساوس الشيطان عند القراءة ، كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } يعني في تلاوته . وقد بينا ذلك في جزء تنبيه الغبي على مقدار النبي .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح القراءة في الصلاة كبر ، ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ، ثم يقول : لا إله إلا أنت ، ثلاثا . ثم يقول : الله أكبر كبيرا ، ثلاثا ، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه } ، ثم يقرأ . هكذا رواه أبو داود وغيره ، واللفظ له . وعن أبي سعيد الخدري { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة } ، وهذا نص في الرد على من يرى القراءة قبل الاستعاذة بمطلق ظاهر اللفظ . وقال مالك : لا يتعوذ في الفريضة ، ويتعوذ في النافلة ، وفي رواية : في قيام رمضان . وكان مالك يقول في خاصة نفسه : " سبحانك اللهم وبحمدك " قبل القراءة في الصلاة . وقد روى مسلم أن عمر بن الخطاب كان يجهر بذلك في الصلاة ، وحديث أبي هريرة صحيح متفق عليه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة فقلت : يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه ؟ قال : أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني [ ص: 159 ] من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد } . وما أحقنا بالاقتداء برسول الله في ذلك ، لولا غلبة العامة على الحق .

                                                                                                                                                                                                              وتعلق من أخذ بظاهر المدونة بما كان في المدينة من العمل ، ولم يثبت عندك أن أحدا من أئمة الأمة ترك الاستعاذة فإنه أمر يفعل سرا ، فكيف يعرف جهرا . ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية : { فإذا قرأت القرآن } الآية قال : ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة ، وهذا قول لم يرد به أثر ، ولا يعضده نظر ; فإنا قد بينا حكم الآية ، وحقيقتها فيما تقدم ، ولو كان هذا كما قال بعض الناس إن الاستعاذة بعد القراءة لكان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة لا تشبه أصول مالك ، ولا فهمه ، والله أعلم بسر هذه الرواية .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية