الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " قال له صاحبه " يعني: المؤمن، " وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب " يعني: خلق أباك آدم، " ثم من نطفة " يعني: ما أنشئ هو منه، فلما شك في البعث كان كافرا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وقالون عن نافع: ( لكن هو الله ربي ) بإسقاط الألف في الوصل، وإثباتها في الوقف . وقرأ نافع في رواية المسيبي بإثبات الألف وصلا ووقفا . وأثبت الألف ابن عامر في الحالين . وقرأ أبو رجاء: ( لكن ) بإسكان النون خفيفة من غير ألف في الحالين . وقرأ ابن يعمر: ( لكن ) بتشديد النون من غير ألف في الحالين . وقرأ الحسن: ( لكن أنا هو الله ربي ) [ ص: 144 ] بإسكان نون ( لكن ) وإثبات ( أنا ) . قال الفراء: فيها ثلاث لغات: لكنا، ولكن، ولكنه بالهاء، أنشدني أبو ثروان:


                                                                                                                                                                                                                                      وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة: مجازه: لكن أنا هو الله ربي، ثم حذفت الألف الأولى، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى فشددت . قال الزجاج: وهذه الألف تحذف في الوصل وتثبت في الوقف، فأما من أثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، فهو على لغة من يقول: أنا قمت، فأثبت الألف، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      أنا سيف العشيرة فاعرفوني      [ حميدا قد تذريت السناما ]



                                                                                                                                                                                                                                      وهذه القراءة جيدة ; لأن الهمزة قد حذفت من ( أنا )، فصار إثبات الألف عوضا من الهمزة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ولولا إذ دخلت جنتك " ; أي: وهلا، ومعنى الكلام: التوبيخ . قال الفراء: " ما شاء الله " في موضع رفع، إن شئت رفعته بإضمار هو، يريد: [ هو ] ما شاء الله، وإن شئت أضمرت فيه: ما شاء الله كان، وجاز طرح جواب الجزاء، كما جاز في قوله: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض [ الأنعام: 35 ]، ليس له جواب ; لأنه معروف . قال الزجاج: وقوله: " لا قوة إلا بالله " الاختيار النصب بغير تنوين على النفي، كقوله: لا ريب فيها [ الكهف: 21 ]، ويجوز " لا قوة إلا بالله " على الرفع بالابتداء، والخبر " بالله " ، المعنى: لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله تعالى، ولا يكون له إلا ما شاء الله . [ ص: 145 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " إن ترن " قرأ ابن كثير: ( إن ترني أنا ) و( يؤتيني خيرا ) بياء في الوصل والوقف . وقرأ نافع وأبو عمرو بياء في الوصل . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة بحذف الياء فيهما وصلا ووقفا . " أنا أقل " وقرأ ابن أبي عبلة: ( أنا أقل ) برفع اللام . قال الفراء: ( أنا ) هاهنا عماد إن نصبت ( أقل )، واسم إذا رفعت ( أقل )، والقراءة بهما جائز .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك " ; أي: في الآخرة، " ويرسل عليها حسبانا " وفيه أربعة أقوال:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه العذاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة والضحاك . وقال أبو صالح عن ابن عباس: نارا من السماء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: قضاء من الله يقضيه، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: مرامي من السماء، وأحدها: حسبانة، قاله أبو عبيدة وابن قتيبة . قال النضر بن شميل: الحسبان: سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في القوس، ثم يرمي بعشرين منها دفعة، فعلى هذا القول يكون المعنى: ويرسل عليها مرامي من عذابه، إما حجارة أو بردا، أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أن الحسبان: الحساب، كقوله الشمس والقمر بحسبان [ الرحمن: 5 ] ; أي: بحساب، فيكون المعنى: ويرسل عليها عذاب حساب ما كسبت يداه، هذا قول الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا " قال ابن قتيبة: الصعيد: الأملس المستوى، والزلق: الذي تزل عنه الأقدام، والغور: الغائر، [ ص: 146 ] فجعل المصدر صفة، يقال: ماء غور، ومياه غور، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، كما يقال: رجل نوم، ورجل صوم، ورجل فطر، ورجال نوم، [ ونساء نوم ]، ونساء صوم . ويقال للنساء إذا نحن: نوح، والمعنى: يذهب ماؤها غائرا في الأرض ; أي: ذاهبا فيها . " فلن تستطيع له طلبا " فلا يبقى له أثر تطلبه به، ولا تناله الأيدي ولا الأرشية . وقال ابن الأنباري: " غورا " : إذا غور، فسقط المضاف وخلفه المضاف إليه، والمراد بالطلب هاهنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه . وقرأ أبو الجوزاء وأبو المتوكل: ( غؤورا ) برفع الغين والواو [ الأولى ] جميعا وواو بعدها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية