الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              2371 باب في نقض الكعبة وبنائها

                                                                                                                              ومثله في النووي.

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص92-94 ج9 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا هناد بن السري. حدثنا ابن أبي زائدة. أخبرني ابن أبي سليمان. عن عطاء ; قال: لما احترق البيت ; زمن يزيد بن معاوية، [ ص: 27 ] حين غزاها أهل الشام ): فكان من أمره ما كان: تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يجرئهم (أو يحربهم ) على أهل الشام.

                                                                                                                              فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس! أشيروا علي في الكعبة: أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهى منها ؟ قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها، أرى: أن تصلح ما وهى منها، وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وأحجارا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجده ; فكيف بيت ربكم ؟ إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري.

                                                                                                                              فلما مضى الثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماه الناس: أن ينزل بأول الناس يصعد فيه: أمر من السماء. حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس: أصابه شيء: تتابعوا، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة، فستر عليها الستور، حتى ارتفع بناؤه.

                                                                                                                              وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس، حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه: لكنت أدخلت فيه من الحجر: خمس أذرع، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه" .

                                                                                                                              [ ص: 28 ] قال: فأنا اليوم، أجد ما أنفق. ولست أخاف الناس.

                                                                                                                              قال: فزاد فيه: خمس أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله: عشر أذرع وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه.

                                                                                                                              فلما قتل ابن الزبير، كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان ; يخبره بذلك. ويخبره: أن ابن الزبير، قد وضع البناء على أس، نظر إليه العدول من أهل مكة.

                                                                                                                              فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء. أما ما زاد في طوله فأقره. وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه.

                                                                                                                              فنقضه وأعاده إلى بنائه. ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عطاء، قال: لما احترق البيت "زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها أهل الشام"، فكان من أمره ما كان: تركه ابن الزبير، حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يجرئهم ) بالجيم والراء، بعدهما همزة، من (الجرأة ).

                                                                                                                              [ ص: 29 ] أي: يشجعهم على قتالهم، بإظهار قبح فعالهم.

                                                                                                                              هذا هو المشهور في ضبطه.

                                                                                                                              قال عياض: ورواه العذري: (يجربهم ) بالجيم والباء. ومعناه: يختبرهم، وينظر ما عندهم في ذلك: من حمية، وغضب لله تعالى، ولبيته عز وجل.

                                                                                                                              (أو يحربهم على أهل الشام ) بالحاء والراء والباء، وأوله مفتوح. ومعناه: يغيظهم بما يرونه قد فعل بالبيت. من قولهم: حربت الأسد، إذا أغضبته.

                                                                                                                              قال عياض: وقد يكون معناه: يحملهم على الحرب، ويحرضهم عليها، ويؤكد عزائمهم لذلك.

                                                                                                                              قال: ورواه آخرون: (يحزبهم ) بالحاء والزاي: يشد قوتهم، ويميلهم إليه، ويجعلهم حزبا له، وناصرين له على مخالفيه.

                                                                                                                              وحزب الرجل: من مال إليه. وتحازب القوم: تمالوا.

                                                                                                                              (فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس! أشيروا علي في الكعبة: أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهي منها ؟ )

                                                                                                                              فيه: دليل، لاستحباب مشاورة الإمام: أهل الفضل والمعرفة في الأمور المهمة.

                                                                                                                              ) قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها ). بضم الفاء وكسر الراء.

                                                                                                                              [ ص: 30 ] أي: كشف وبين. قال تعالى: وقرآنا فرقناه أي: فصلناه وبيناه.

                                                                                                                              قال النووي: هذا هو الصواب: في ضبط هذه اللفظة، ومعناها. وهكذا ضبطه القاضي، والمحققون.

                                                                                                                              وقد جعله الحميدي (صاحب الجمع بين الصحيحين )، في كتابه (غريب الصحيحين ): فرق، بفتح الفاء، بمعنى: خاف. وأنكروه عليه. وغلطوا الحميدي: في ضبطه، وتفسيره.

                                                                                                                              (أرى: أن تصلح ما وهي منها، وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وأحجارا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم ).

                                                                                                                              أي: لا تنقض الكعبة، ولا تبن بناء لها جديدا. وإنما يكفيك: إصلاح ما وهي منها وضعف.

                                                                                                                              (فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته، ما رضي حتى يجدده ) بدالين.

                                                                                                                              وفي أكثر النسخ: (يجده )، بضم الياء، وبدال واحدة. وهما بمعنى كما قال النووي.

                                                                                                                              (فكيف بيت ربكم ؟ إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري. فلما مضى الثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها، فتحاماه الناس: أن [ ص: 31 ] ينزل بأول الناس يصعد فيه: أمر من السماء. حتى صعده رجل، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس: أصابه شيء: تتابعوا، فنقضوه ).

                                                                                                                              هكذا في جميع النسخ. وكذا ذكره عياض، عن رواية الأكثرين: بباء موحدة قبل العين.

                                                                                                                              وعن أبي بحر: (تتايعوا ) بالياء. وهو بمعناه. إلا أن أكثر ما يستعمل بالمثناة، في الشر خاصة. وليس هذا موضعه.

                                                                                                                              (حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه ).

                                                                                                                              المقصود بهذه الأعمدة والستور: أن يستقبلها المصلون في تلك الأيام، ويعرفوا موضع الكعبة.

                                                                                                                              ولم تزل تلك الستور، حتى ارتفع البناء، وصار مشاهدا للناس، فأزالها: لحصول المقصود، بالبناء المرتفع من الكعبة.

                                                                                                                              واستدل عياض بهذا، لمذهب مالك، في أن المقصود بالاستقبال: البناء لا البقعة.

                                                                                                                              قال: وقد كان ابن عباس، أشار على ابن الزبير بنحو هذا. وقال له: إن كنت هادمها، فلا تدع الناس بلا قبلة. فقال له جابر: صلوا إلى موضعها، فهي القبلة.

                                                                                                                              [ ص: 32 ] قال النووي: ومذهب الشافعي وغيره: جواز الصلاة، إلى أرض الكعبة. ويجزيه ذلك بلا خلاف عنده، سواء كان بقي منها شاخص أم لا. والله أعلم.

                                                                                                                              ) وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس، حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه: لكنت أدخلت فيه من الحجر: خمسة أذرع، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه، وبابا يخرجون منه ).

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى: (ولجعلت لها خلفا ) بفتح الخاء وإسكان اللام.

                                                                                                                              والمراد به: باب من خلفها. وقد جاء مفسرا في الروايات الأخرى، التي تقدمت.

                                                                                                                              وفي رواية للبخاري: (قال هشام: خلفا. يعني: بابا ).

                                                                                                                              وفي أخرى له: (ولجعلت لها خلفين ) بكسر الخاء. هكذا ضبطه الحربي. وقال: الخالفة: عمود في مؤخر البيت.

                                                                                                                              وقال الهروي: بفتح الخاء. وذكر: أن الخلف: الظهر. وهذا يفسر ; أن المراد: الباب، كما فسرته الأحاديث الباقية ; منها: حديث الباب.

                                                                                                                              [ ص: 33 ] وفي حديث آخر بلفظ: (لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم ).

                                                                                                                              وفي أخرى: (ألم تري: أن قومك، حين بنوا الكعبة، اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ ).

                                                                                                                              وفي أخرى: (فإن قريشا اقتصرتها ).

                                                                                                                              وفي أخرى: (إن قومك، استقصروا من بنيان البيت ).

                                                                                                                              وفي أخرى: (قصروا في البناء ).

                                                                                                                              وفي أخرى: (فإن قريشا، حين بنت البيت، استقصرت ).

                                                                                                                              وفي رواية: (قصرت بهم النفقة ).

                                                                                                                              قال أهل العلم: هذه الروايات كلها بمعنى واحد. ومعنى استقصرت: قصرت عن تمام بنائها، واقتصرت على هذا القدر، لقصور النفقة بهم عن تمامها.

                                                                                                                              قال النووي: وفي هذا الحديث: دليل لقواعد من الأحكام ;

                                                                                                                              منها: إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة، وترك المفسدة: بدئ بالأهم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم،

                                                                                                                              [ ص: 34 ] أخبر: أن نقض الكعبة، وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم (صلى الله عليه وسلم ): مصلحة.

                                                                                                                              ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي: خوف فتنة بعض من أسلم قريبا. وذلك لما كانوا يعتقدونه: من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيما، فتركها صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                              قال: ومنها: فكر ولي الأمر، في مصالح رعيته، واجتنابه: ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا، إلا الأمور الشرعية: كأخذ الزكاة، وإقامة الحدود، ونحو ذلك.

                                                                                                                              ومنها: تألف قلوب الرعية، وحسن حياطتهم، وأن لا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي. والله أعلم.

                                                                                                                              قال: فأنا اليوم، أجد ما أنفق. ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمس أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء. وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله: عشرة أذرع. وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه.

                                                                                                                              فلما قتل ابن الزبير، كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مروان: يخبره [ ص: 35 ] بذلك. ويخبره: أن ابن الزبير، قد وضع البناء على أس، نظر إليه العدول: من أهل مكة. فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ).

                                                                                                                              يريد بذلك: سبه وعيب فعله.

                                                                                                                              يقال: لطخته، أي: رميته بأمر قبيح.

                                                                                                                              ) أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه. فنقضه، وأعاده إلى بنائه ).

                                                                                                                              قال النووي: قال العلماء: بني البيت خمس مرات ;

                                                                                                                              بنته الملائكة، ثم إبراهيم عليه السلام، ثم قريش في الجاهلية. وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء، وله خمس وثلاثون سنة. وقيل: خمس وعشرون. وفيه سقط على الأرض (حين وقع إزاره ).

                                                                                                                              ثم بناه ابن الزبير، ثم الحجاج بن يوسف.

                                                                                                                              واستمر إلى الآن على بناء الحجاج.

                                                                                                                              وقيل: بني مرتين أخريين، أو ثلاثا.

                                                                                                                              قال: وقد أوضحته في كتاب (إيضاح المناسك ) الكبير.

                                                                                                                              قال: قال العلماء: ولا يغير عن هذا البناء. وقد ذكروا: أن هارون الرشيد، سأل مالك بن أنس عن هدمها، وردها إلى بناء ابن الزبير، للأحاديث المذكورة في الباب.

                                                                                                                              [ ص: 36 ] فقال مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين! ألا تجعل هذا البيت لعبة للملوك ; لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وبالله التوفيق.

                                                                                                                              انتهى كلام النووي.




                                                                                                                              الخدمات العلمية